الاقتصاد الصيني
تطلق الصين سلسلة من المساعي التحفيزية في محاولة لإعادة تنشيط اقتصادها وتخفيف الضغوط المتراكمة على الاستهلاك المحلي. وتأتي هذه الخطوات في إطار حزم متتالية تسعى من خلالها بكين إلى إعادة التوازن بين ما هو مطلوب داخلياً من استقرار اجتماعي ونمو اقتصادي، وما تفرضه البيئة الخارجية من تحديات متصاعدة.
تركز هذه التحركات على تحفيز الطلب المحلي ورفع قدرة الأسر على الإنفاق، إلى جانب فتح المجال أمام قطاعات خدمية جديدة في السياحة والصحة والتعليم. ويعكس هذا التوجه إدراك السلطات أن النمو المستدام لن يتحقق فقط عبر الاستثمارات الضخمة في البنية التحتية، بل من خلال خلق محركات داخلية أكثر مرونة واستقراراً.
تتزامن هذه الجهود مع تحولات أوسع في مقاربة الصين الاقتصادية، إذ تحاول بكين تحويل بوصلة نموها نحو الصناعات التكنولوجية المتقدمة والطاقة النظيفة، بما يمنحها قاعدة صلبة لمواجهة التحديات العالمية والحفاظ على موقعها كلاعب رئيسي في الاقتصاد الدولي.
وكشفت بكين عن مجموعة واسعة من الإجراءات الهادفة لتعزيز القطاعات المالية والسياحية والطبية في الوقت الذي تؤثر فيه الحرب التجارية لواشنطن على الاقتصاد الصيني.
تهدف الحزمة المكونة من 19 خطوة، والتي أعلنت عنها وزارة التجارة الصينية وثماني إدارات أخرى، إلى تشجيع المستهلكين الصينيين على إنفاق المزيد ومساعدة الاستهلاك المحلي المتأخر، وهو مصدر قلق طويل الأمد في الاقتصاد الصيني الذي تقوده الصادرات.
تضمنت السياسات تشجيع المزيد من الزوار الدوليين على القدوم إلى الصين، وتوسيع الإقراض الاستهلاكي، وتحويل جداول العطلات المدرسية لتسهيل المزيد من السفر والإنفاق، وزيادة الوصول إلى السوق في قطاعي الصحة والترفيه، وفقًا لقائمة نشرتها وسائل الإعلام الحكومية الصينية .
تأتي هذه الحزمة بعد أشهر من مواجهة جمركية قاسية بين أكبر اقتصادين في العالم، والتي تصاعدت مع فرض رسوم جمركية متبادلة من كلا البلدين، والتي تجاوزت 100 بالمئة. وتم التوصل إلى هدنة مؤقتة هذا الربيع، بحسب صحيفة “واشنطن بوست”.
وكان الاقتصاد الصيني يعاني بالفعل من مشاكل مزمنة، مثل أزمة العقارات والانكماش الاقتصادي الناجم عن الجائحة. وقد أظهر أخيراً علامات تفاقم في ظل التوترات التجارية.
أعلن المكتب الوطني للإحصاء الصيني يوم الاثنين أن معدل البطالة في المناطق الحضرية ارتفع بشكل طفيف في أغسطس، بينما تباطأ نمو مبيعات التجزئة مقارنةً بشهر يوليو. وظل قطاع العقارات يُمثل مشكلة، حيث انخفض الاستثمار العقاري بنحو 13 بالمئة بين يناير وأغسطس، مقارنةً بالفترة نفسها من العام الماضي.
وكانت الصين قد أطلقت العديد من حزم التحفيز في العام الماضي، بما في ذلك 1.4 تريليون دولار في نوفمبر.
مواجهة شاملة
من جانبه، يقول الخبير الاقتصادي، عامر الشوبكي، لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”:
- “ما نشهده اليوم بين الولايات المتحدة والصين أصبح مواجهة شاملة تعيد رسم ملامح الاقتصاد العالمي.”
- “إدارة ترامب جاءت هذا العام لتطلق ما يشبه خطط هجوم متعددة المحاور”.
- “الجبهة الأولى في هذا الهجوم تمثلت بفرض واشنطن رسوماً جمركية عامة.. لكنها استهدفت الصين بشكل مضاعف عبر رفع الرسوم على منتجات أساسية مثل الصلب والألمنيوم والإلكترونيات.
- لم تكتفِ واشنطن بالرسوم بل بدأت بإغلاق ثغرات إعادة التصدير عبر دول وسيطة مثل فيتنام والمكسيك ودول شرق آسيا، حيث صارت تُحتسب بدقة نسبة المكون الصيني في كل مستورد، ما جعل التفاف الشركات الصينية عبر إعادة التغليف أو تغيير بلد المنشأ أمراً شبه مستحيل.
- الجبهة الثالثة، وهي الأخطر، تتمثل في التكنولوجيا، إذ شددت واشنطن القيود على أشباه الموصلات والرقائق المتقدمة والذكاء الاصطناعي، وفرضت قيوداً سنوية على صادرات شركات كبرى مثل سامسونغ و”تي إس إم سي”، إضافة إلى قيود على صادرات الصين نفسها، وهو ما يعني أن قلب الطموح الصناعي الصيني بات تحت ضغط مباشر.
ويشير الشوبكي إلى أن بكين، في مواجهة ذلك، طرحت خطة “قوى الإنتاج النوعية الصناعية الجديدة” التي تهدف إلى تحويل الاقتصاد من الاعتماد المفرط على العقار والبنية التحتية -التي دخلت أزمة ديون خانقة – إلى اقتصاد يقوم على الصناعات عالية القيمة مثل أشباه الموصلات، السيارات الكهربائية، البطاريات، الطاقة المتجددة، الألواح الشمسية، الروبوتات والذكاء الاصطناعي.
ويضيف: “الصين أدركت أن مستقبلها لن يكون في المنافسة عبر المنتجات الرخيصة، بل في السيطرة على قطاعات المستقبل التكنولوجية، وهي لا تكتفي بالجبهة الداخلية، بل تتحرك خارجياً عبر تكتلات مثل شنغهاي وبريكس لتعويض الأسواق الغربية.”
ويتابع قائلاً: “خطوة الصين الأخيرة بإلغاء الرسوم على واردات من 53 دولة إفريقية ليست اقتصادية فقط، بل استراتيجية لفتح أسواق جديدة وتعزيز الروابط مع القارة الإفريقية في وقت تراجعت فيه المبادرات الأميركية هناك. أما في أميركا اللاتينية، فتبرز المنافسة في فنزويلا الغنية بالنفط، حيث تملك الصين عقود توريد طويلة الأمد، بينما تحاول واشنطن استعادة نفوذها عبر السماح لشركة شيفرون بالعودة للعمل.”
ويؤكد الشوبكي أن نجاح الصين مرهون بمعالجة أزمة العقار داخلياً، عبر تدخل الدولة وشراء المخزون الكبير من الشقق غير المبيعة وتحويلها إلى إسكان ميسّر، إضافةً إلى تسريع إحلال التكنولوجيا المحلية محل الغربية، وهو ما حققت فيه تقدماً بصناعة رقائق 7 نانومتر وربما أقل.
ويشير إلى أن الصين مطالَبة أيضاً بإثبات قدرتها على تصريف فائض إنتاجها الصناعي، خصوصاً في قطاعي السيارات الكهربائية والألواح الشمسية، في مختلف أسواق العالم دون أن تواجه اتهامات بالإغراق، وإلا فإنها ستقع في فقاعة صناعية قد تؤثر سلباً على اقتصادها.
ويشير تقرير لمجلة “الإيكونوميست” إلى أنه إذا أراد الاقتصاد الصيني أن يزدهر محققاً هدف الحكومة للنمو البالغ 5 بالمئة لهذا العام، فسيحتاج إلى مزيد من التحفيز. وقد أعلنت الحكومة مؤخراً عن مجموعة متنوعة من الإجراءات.
ستحصل العائلات الآن على 3600 يوان (حوالي 500 دولار أميركي) سنوياً كإعانة ولادة، لكل طفل دون سن الثالثة. واعتباراً من بداية الفصل الدراسي الخريفي الحالي، يمكنهم أيضاً تسجيل أطفالهم في السنة الأخيرة من رياض الأطفال الحكومية مجاناً، أو الحصول على إعانة مماثلة لرياض الأطفال الخاصة.
كما يمكن لكبار السن ذوي الإعاقات المتوسطة إلى الشديدة الحصول على قسيمة شهرية تصل قيمتها إلى 800 يوان لتغطية تكاليف الرعاية. كما سيحصل أصحاب العمل الذين يوظفون شباباً عاطلين عن العمل على إعانة حكومية تصل إلى 1500 يوان.
وبخلاف جهود الصين التقليدية لرفع الطلب، تُشجع هذه الإجراءات الاستهلاك لا الاستثمار، وتُركز على شراء الخدمات.
إمكانات صينية
بدوره، يشير الخبير الاقتصادي، أنور القاسم، لدى حديثه مع موقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إلى أن الاقتصاد الصيني يمتلك الإمكانية والقابلية والأدوات اللازمة للنهوض والاستمرار في تحقيق معدلات نمو مرتفعة تفوق المستوى الحالي البالغ نحو 5 بالمئة.
ويضيف أن من بين هذه الإمكانيات زيادة الإنفاق الحكومي وتحفيز الاستهلاك المحلي، إلى جانب التركيز على التطور التكنولوجي عبر مبادرات مثل “صنع في الصين 2025″، ودعم القطاعات الحيوية كقطاع الطاقة النظيفة، والاستثمار في ابتكارات محلية تقلل من الاعتماد على التكنولوجيا الأجنبية.
ويشير القاسم إلى أن تعزيز الطلب المحلي يمكن أن يتحقق من خلال إصلاحات نقدية، وزيادة الأجور، وتخفيف الأعباء المالية عن المواطنين والشركات الصغيرة، مؤكداً أن تخفيض أسعار الفائدة يعدّ أداة مهمة لتحفيز النمو عبر رفع مستويات الطلب المحلي.
ويوضح أن هناك إمكانية أيضاً لدعم قطاع العقارات عبر تخفيف القيود على شراء المساكن، ما يسهم في تنشيط الاقتصاد بشكل عام. كما يؤكد القاسم أن الرسوم الجمركية الأميركية المرتفعة قد تحدّ من فائض الصين التجاري وتقلّص صادراتها، لكن البلاد قادرة على تعويض ذلك عبر التوجه نحو أسواق جديدة، وتعزيز التعاون مع الكتل الاقتصادية الكبرى، بالإضافة إلى زيادة الاستثمارات في الدول النامية.
ويختم بالقول إن هذه العوامل مجتمعة تمنح الاقتصاد الصيني قاعدة صلبة لمواصلة النمو رغم التحديات الدولية.
الرفاعي: الصين تعاني من فقاعة عقارية تهدد معجزتها الاقتصادية