فيما بدأت عمليات رفع أسعار الفائدة التي ينفذها المجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي والبنك المركزي الأوروبي تؤتي ثمارها في معركتهما ضد التضخم، تقف بريطانيا اليوم في موقف لا تحسد عليه باعتبارها الاقتصاد المتقدم الكبير الوحيد الذي لا يزال لديه معدل تضخم يزيد عن 10 بالمئة، الأمر الذي يدفع المراقبين والمهتمين للتساؤل حول أسباب سير التضخم في بريطانيا عكس التيار العالمي؟
منذ العام الماضي، رفع البنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي معدل الفائدة 10 مرات، ليتراوح ما بين 5 و5.25 بالمئة، وهو أعلى مستوى منذ أغسطس 2007، ما أدى إلى تراجع معدل التضخم السنوي في الولايات المتحدة إلى 5 بالمئة خلال مارس الماضي، بعد أن وصل في منتصف 2022 إلى أعلى مستوياته في نحو 4 عقود متجاوزاً الـ 9 بالمئة، ولكنه مع ذلك لا يزال بعيداً عن مستهدف المركزي الأميركي البالغ 2 بالمئة.
أما البنك المركزي الأوروبي، فقد رفع معدل الفائدة 7 مرات منذ العام الماضي، بهدف السيطرة على التضخم ليصل إلى مستوى 3.75 بالمئة، ليتباطأ التضخم في دول منطقة اليورو بشكل حاد من قراءات في خانة العشرات في أواخر العام الماضي، حيث أظهرت بيانات مكتب إحصاءات الاتحاد الأوروبي “يوروستات”، أن التضخم بلغ 7 بالمئة في أبريل الماضي، لكنه أيضاً لا يزال بعيداً مستهدف المركزي الأوروبي البالغ 2 بالمئة.
وفي بيانه الأخير، أبقى المركزي الأوروبي خياراته بشأن توجهات الفائدة مفتوحة مع استمرار معركته لمكافحة التضخم، إلا أنه لم يذكر ضرورة الحاجة إلى تطبيق زيادات أخرى.
في حين كان بنك انجلترا من أوائل البنوك المركزية الكبرى التي تحركت لرفع الفائدة للسيطرة على ارتفاع الأسعار، حيث رفع الفائدة منذ ديسمبر 2021 إحدى عشر مرة وكان آخرها في مارس الماضي بمقدار 25 نقطة أساس لتصل إلى 4.25 بالمئة وهي الأعلى منذ الأزمة المالية العالمية في 2008، ولكن حتى وقتنا هذا يفشل البنك في السيطرة على وتيرة التضخم الذي لا يزال فوق 10 بالمئة والأعلى في غرب أوروبا.
رفع الفائدة في أوروبا وأميركا يؤتي ثماره
كلاش كنوت رئيس البنك المركزي الهولندي وعضو مجلس محافظي البنك المركزي الأوروبي، قال في تصريحات الأحد الماضي: “إن عمليات رفع أسعار الفائدة التي ينفذها البنك المركزي الأوروبي بدأت تؤتي ثمارها لكن المزيد سيكون مطلوبا لاحتواء التضخم”، بينما أعلن الفيدرالي في بيانه الأخير أن “الأنشطة الاقتصادية في البلاد قد توسعت بوتيرة معتدلة خلال الربع الأول من العام الجاري”، كما أنه لم يشر إلى ضرورة الاستمرار في رفع معدلات الفائدة، ما يعني أنه قد يفتح الباب أمام إيقاف عملية زيادة الفائدة.
إجراءات بنك إنجلترا كانت أقل صرامة من الفيدرالي الأميركي والمركزي الأوروبي
بدوره، يقول الدكتور ممدوح سلامة خبير الاقتصاد والنفط العالمي المقيم في بريطانيا في حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”: “بدأ التضخم في المملكة المتحدة مرتفعاً مثل الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي لكن الإجراءات التي اتخذها بنك إنجلترا كانت أقل صرامة بكثير من بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي أو البنك المركزي الأوروبي، ويعود ذلك إلى أن اقتصاد المملكة المتحدة كان في وضع أسوأ بكثير من حالة الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة”.
وكان من شأن رفع أسعار الفائدة بشكل مبالغ فيه من قبل بنك إنجلترا أن يقلص الاقتصاد البريطاني أكثر بكثير مما كان يؤدي إلى تفاقم تكلفة المعيشة وإغراق الاقتصاد أكثر في الركود وتحقيق الخسائر، بحسب الدكتور سلامة.
ويوضح الدكتور سلامة أن بنك إنجلترا قد يتوقف قريباً عن رفع أسعار الفائدة على أمل أن يبدأ التضخم في الانخفاض بمحض إرادته.
ورداً على سؤال فيما إذا كان النفط لا يزال يؤثر على معدل التضخم في بريطانيا رغم انخفاض سعره قال الدكتور سلامة: “حقيقة إن أسعار النفط قد انخفضت مؤخراً وهذا قد تساعد في تخفيض معدلا التضخم في المملكة المتحدة، ولكن بمجرد أن تبدأ المخاوف من حدوث أزمة مصرفية أو أزمة مالية عالمية في الانحسار سيعوض النفط خسائره ويستأنف صعوده”.
كلمة السر.. الواردات
وفي حديثه لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، يُرجع أشرف العايدي رئيس تنفيذي لشركة “Intermarket Strategy” المقيم في بريطانيا، تأثُر بريطانيا بالتضخم أكثر من الولايات المتحدة الأميركية ودول منطقة اليورو إلى أن اعتماد بريطانيا على الواردات له وزن أكثر من البلدان الأخرى، لكنه في الوقت ذاته يستبعد لجوء بنك إنجلترا إلى مواصلة السياسة النقدية التشددية بعدما يتوقف الاحتياطي الفيدرالي الأميركي والبنك المركزي الأوروبي غن تضييق السياسة النقدية.
ويضيف العايدي: “قرار بريكست يبقى عاملاً لا يمكن تجاهله في لعب دور بتخفيض نمو الاقتصاد البريطاني ورفع الأجور والتضخم بعد خروج الآلاف من العمال الأوروبيين الذين كانوا يلعبون دوراً هاماً في تخفيض الأجور”.
أعراض الضائقة الاقتصادية الخطيرة
من جهته، يقول الخبير الاقتصادي والمالي علي حمودي لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”: “تقف بريطانيا في موقف لا تحسد عليه باعتبارها الاقتصاد المتقدم الكبير الوحيد الذي لا يزال لديه معدل تضخم يزيد عن 10 بالمئة، وهذه حقيقة تمثل أحد أعراض الضائقة الاقتصادية الخطيرة التي تواجهها البلاد، حيث انخفض معدل التضخم السنوي لأسعار المستهلك في بريطانيا إلى 10.1 بالمئة الشهر الماضي من 10.4 بالمئة”.
هذه الأرقام سلطت الضوء على خطر تعرض بريطانيا لتضخم مرتفع لفترة أطول من الاقتصادات المماثلة الأخرى بسبب اعتمادها على الغاز الطبيعي للتدفئة والكهرباء وهيكل الدعم الحكومي لمواطنيها لتخفيف التغيرات المرتفعة في الأسعار، طبقاً لما قاله حمودي.
صدمة طاقة كبيرة ونقص في العمالة
ويشرح حمودي أن بنك إنجلترا يشعر بالقلق من أن التضخم المرتفع قد يتسبب في زيادة دائمة في مطالب الأجور واستراتيجيات تسعير الأعمال التجارية والتي تفاقمت بسبب انخفاض القوة العاملة بعد الوباء ومشاكل التجارة وسوق الوظائف الناجمة عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لافتاً إلى أن معدل التضخم في المملكة المتحدة ارتفع بشكل أكبر وظل أعلى من أي مكان آخر حيث شهدت المملكة أسوأ ما في أميركا وأوروبا، صدمة طاقة كبيرة مثل منطقة اليورو ونقص العمالة مثل الولايات المتحدة.
كما أدى ارتفاع معدلات التقاعد المبكر والمرض طويل الأمد واتجاهات الهجرة إلى استنزاف مجموعة العمال ما يعني أن تعافي سوق العمل البريطاني من الوباء يتخلف عن نظرائه في الاقتصاد الدولي.، بحسب الخبير الاقتصادي والمصرفي حمودي الذي أكد أن بنك إنجلترا لم ينته بعد من رفع أسعار الفائدة ولن يفعل ذلك إلا إذا رأى انخفاضاً ملموسًا في أرقام التضخم إلى 6 أو 5 بالمئة على الأقل.
بريكست المتهم الرئيسي
وأرجع الرئيس التنفيذي لمركز “كوروم للدراسات الاستراتيجية” في لندن، طارق الرفاعي، السبب الرئيسي لارتفاع التضخم في بريطانيا مقارنة مع الولايات المتحدة أميركا ودول الاتحاد الأوروبي إلى تأثيرات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وفي شرحه لتداعيات ذلك على الاقتصاد البريطاني يشير الرفاعي في تصريحات لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية “مع خروج الاقتصاد العالمي من أزمة جائحة كورونا شاهدنا نسب تضخم مرتفعة تاريخياً في الكثير من الدول حول العالم، ومنها بريطانيا ودول أوروبا وأميركا، وتابعنا ردة فعل البنوك المركزية في محاولة السيطرة على هذه النسب العالية من خلال رفع أسعار الفائدة بما في ذلك بنوك أميركا وبريطانيا وأوروبا التي تأخرت في هذه الخطوة الأمر ما أدى إلى ارتفاعات سريعة في التضخم بهذه الدول”.
ويضيف الرفاعي: “لكن قصة بريطانيا مع بقاء نسبة التضخم مرتفعة بخلاف أميركا ودول أوروبا التي تباطأ فيها معدل التضخم، تعود إلى المشاكل الاقتصادية بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ومنها على سبيل المثال مشكلة تأخير تأشيرات السائقين من أوروبا باتجاه بريطانيا بسبب الخلافات بينهم ما أخر وصول البضائع إلى بريطانيا، كما أن بريطانيا تحاول إنجاز اتفاق تجاري مع الاتحاد الأوروبي إلا أنها لم تنجح بسبب تأجيل هذه الخطوة من قبل الاتحاد الأوروبي وكل ذلك تسبب بوجود نسب مرتفعة للتضخم في بريطانيا”.