الأسواق – وول ستريت
تشهد أسواق المال العالمية مرحلة تحوّل لافتة تعيد رسم خريطة صفقات الاندماج والاستحواذ، وسط زخم غير مسبوق يعكس عودة الشهية الاستثمارية لدى الشركات الكبرى. فبعد فترات من التردد وتقلبات الاقتصاد العالمي، تبدو المؤسسات العابرة للقطاعات أكثر استعدادًا للاندفاع نحو صفقات استراتيجية تعكس ثقة متزايدة في البيئة المالية والتنظيمية.
ومع تحسن مزاج المستثمرين وتراجع الضبابية التي سيطرت على الأسواق خلال الفترة الماضية، بدأت الشركات العملاقة تعيد إحياء خطط توسعية كانت مؤجلة، مدفوعة بتغيرات سياسية واقتصادية أعادت رسم موازين المشهد.
على هذه الخلفية، تتوالى مؤشرات عودة القوة إلى سوق الصفقات الكبرى، في وقت يستعد فيه القطاع المالي لموجة جديدة من التحالفات وإعادة الهيكلة.
صفقات جديدة
بحسب تقرير لصحيفة “فايننشال تايمز” فإن الصفقات التي تتجاوز قيمتها 10 مليارات دولار سجّلت مستوى قياسياً غير مسبوق في عام 2025، بعد أن أطلقت حملة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الهادفة إلى تخفيف القيود العنانَ لـ”شهية المخاطرة” في وول ستريت، ما أشعل موجة عالمية من صفقات الاستحواذ والاندماج.
رفعت صفقة استحواذ “نافر” البالغة قيمتها 10.3 مليار دولار- عبر مبادلة أسهم- على أكبر بورصة للعملات المشفرة في كوريا الجنوبية “أبّيت”، يوم الأربعاء، عددَ “الصفقات الضخمة” هذا العام إلى 63 صفقة، متجاوزةً الرقم القياسي المسجّل في 2015، وفقًا لبيانات “إل إس إي جي” للصفقات منذ عام 1988.
تأتي هذه الفورة رغم البداية البطيئة للعام، بعدما أشعلت “تعرفات يوم التحرير” التي فرضها الرئيس الأميركي موجات من التقلبات في الأسواق وحالة عميقة من عدم اليقين بشأن أسعار الفائدة وآفاق الاقتصاد العالمي.
وقال الرئيس العالمي المشارك لأنشطة الاندماج والاستحواذ في “بنك أوف أميركا”، إيفان فارمان: “تستغل الشركات هذه النافذة لتنفيذ الصفقات الكبرى التي لطالما رغبت في القيام بها وانتظرها السوق منذ فترة.” ويضيف: “عندما ترى صفقات عملاقة تُبرم في قطاعك، لا تريد أن تُترك خارج اللعبة عندما تتحرك قطع الشطرنج.”
وعادت الصفقات بقوة في النصف الثاني من 2025، بعدما انقضّ الرؤساء التنفيذيون على صفقات تُوصف بأنها “مرة واحدة في الجيل”، من بينها عرض “يونيون باسيفيك” للاستحواذ على “نورفولك ساذرن” بقيمة 85 مليار دولار، وصفقة الاستحواذ على “إلكترونيك آرتس” بقيمة 55 مليار دولار، واندماج “أنغلو أميركان” مع “تيك” بقيمة 50 مليار دولار، وصفقة “كيمبرلي-كلارك” للاستحواذ على شركة “كينفيو” المصنعة لدواء “تايلينول” بقيمة 49 مليار دولار.
وقال إدوارد لي، الشريك في “كيركلاند آند إليس”، إن الرؤساء التنفيذيين ومجالس الإدارات باتوا يمتلكون اليوم “الثقة والرؤية” التي تمكّنهم من تنفيذ “التحركات الاستراتيجية الكبرى التي أرجأوها لعامين بسبب عدم اليقين بشأن الفائدة والتضخم والانتخابات. وأضاف أن هذا الوضوح الأكبر سيسمح بتمرير صفقات كانت متوقفة سابقًا بسبب العوائق التنظيمية.
وجاءت موجة الصفقات في النصف الثاني من العام بعد تراجع ترامب عن خوض حرب تجارية شاملة مع الصين، وتخفيفه بعضًا من أكثر تعرفاته عدوانية، مع مضاعفة دعمه لإجراءات صديقة لعمليات الاندماج والاستحواذ، بما في ذلك تخفيف قواعد مكافحة الاحتكار.
جو يرق: الانقسام في الفيدرالي يثير القلق حول مسار الفائدة
مرحلة انتعاش
يقول خبير أسواق المال، محمد سعيد، لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”:
- وول ستريت تعيش مرحلة استثنائية من الزخم وعودة قوية لصفقات الاندماج والاستحواذ التي سجلت مستويات قياسية متجاوزة ما تحقق في السنوات الماضية.
- الشرارة الأولى لهذه الموجة جاءت مع تحوّل الاحتياطي الفيدرالي الأميركي نحو تيسير السياسة النقدية وخفض أسعار الفائدة، مما أدى إلى تراجع تكلفة الاقتراض بشكل كبير، وشجّع الشركات على إعادة تفعيل صفقات عملاقة كانت مؤجلة.
- هذا التوجّه حفّز صناديق الاستثمار التي تتمتع بسيولة ضخمة لضخ تريليونات الدولارات في السوق بحثًا عن عوائد أعلى في بيئة تمويلية مريحة وتراجع لعوائد السندات الآمنة.
ويضيف سعيد أن البيئة التنظيمية والسياسية في الولايات المتحدة شهدت تغيراً ملحوظاً؛ إذ أصبحت أكثر مرونة وأقل تشدداً في تطبيق قوانين مكافحة الاحتكار، مما منح الشركات الكبرى مساحة أوسع لتنفيذ خطط التوسع والاندماج دون القلق من التعقيدات القانونية.
وفي الوقت ذاته، أظهر الاقتصاد الأميركي مرونة قوية تفوقت على التوقعات، مع استمرار نمو الناتج وتحسن في سوق العمل، بينما جاءت أرباح الشركات أعلى من التقديرات، وهو ما عزز ثقة المستثمرين وجعل الأسهم الأميركية -خصوصاً مع ضعف الدولار نسبياً- وجهة مفضلة للمستثمرين الأجانب الباحثين عن مزيج من الأمان والربحية.
ويؤكد سعيد أنه لا يمكن الحديث عن هذا الصعود دون الإشارة إلى ثورة الذكاء الاصطناعي التي خلقت موجة تفاؤل واسعة، ودَفعت شركات التكنولوجيا العملاقة مثل إنفيديا ومايكروسوفت إلى تنفيذ صفقات استحواذ مليارية بهدف تعزيز قدراتها التقنية وضمان السيطرة على حصص سوق المستقبل. فهذه الشركات تستفيد من ارتفاع قيمها السوقية وتستخدم أسهمها كـ”عملة قوية” لإتمام الصفقات في سباق محموم على الريادة التكنولوجية.
ورغم الأجواء الإيجابية وتدفّق السيولة، يشدد سعيد على أهمية التحلّي بالحذر، إذ إن تركّز الاستثمارات في عدد محدود من أسهم التكنولوجيا وارتفاع التقييمات إلى مستويات قياسية قد يشير إلى مخاطر تشكل فقاعة سعرية إذا لم تكن مدعومة بنمو تشغيلي حقيقي. كما أن بعض صفقات الاندماج الضخمة قد تواجه تحديات تنظيمية وإدارية عند التنفيذ.
صفقات التكنولوجيا
بحسب سيتي غروب، في التصريحات التي أدلى بها الرئيس المشارك العالمي لعمليات الدمج والاستحواذ، دراجو راجكوفيتش، فإن ثمة زيادة في النشاط ليس فقط في مجال التكنولوجيا، مدفوعًا بموجة من الأموال التي تتجه إلى البنية التحتية للذكاء الاصطناعي، ولكن أيضًا في قطاعات الرعاية الصحية والصناعات والمالية وغيرها.
لكن بشكل عام، عمليات الدمج والاستحواذ كانت أقوى بين الشركات الأكبر حجما مقارنة بالشركات الأصغر حجما، وهي علامة على أن نشاط الصفقات لا يزال غير متساو.
ويقول الرئيس العالمي لعمليات الدمج والاستحواذ في باركليز، أندرو ووبر: “غالباً ما يكون إبرام الصفقات الصغيرة أصعب لأنها أقل جاذبية للمشترين لأنها لا تُحدث فرقاً ملموساً.. في الأساس، تُحقق الصفقات الصغيرة عوائد أقل، لذا يميل عملاؤنا إلى التركيز على الصفقات الكبيرة”.
يقول رئيس قسم الأسواق العالمية في شركة “Cedra Markets”، جو يرق، لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إن ثمة عودة قوية لزخم الصفقات الكبرى في “وول ستريت” خلال الربع الثالث من العام الجاري.
وعزا هذا الانتعاش إلى عدة عوامل جوهرية، يأتي في مقدمتها بدء دورة خفض أسعار الفائدة، مما جعل تكلفة التمويل أقل وأيسر، وشكل حافزاً أساسياً لإتمام هذه الصفقات.
ويشير الخبير المالي إلى أن قطاع التكنولوجيا، وتحديداً الذكاء الاصطناعي، استحوذ على حصة الأسد من هذه الصفقات، مدفوعاً بالنمو المطّرد وآمال المستثمرين الكبيرة المعلقة على مستقبل هذا القطاع. كما نوه إلى تزايد شهية المستثمرين تجاه “الأسهم الخاصة” والاكتتابات الخاصة، سعياً وراء العوائد الجيدة المتوقعة بناءً على التقديرات المستقبلية.
وفي سياق متصل، يؤكد يرق أن الثقة في الاقتصاد الأميركي و”وول ستريت” لعبت دوراً محورياً، حيث شهد العام الحالي تدفقات مالية قياسية وضخمة، كان محركها الأساسي قطاع التكنولوجيا الذي يقود قاطرة الاقتصاد الأميركي.
ويختتم حديثه بالإشارة إلى العامل السياسي والتنظيمي، موضحاً أن عودة الرئيس دونالد ترامب ساهمت في تغيير المشهد مقارنة بعهد الديمقراطيين الذين تبنوا سياسات تنظيمية أكثر صرامة تجاه عمليات الدمج والاستحواذ. وأضاف أن الإدارة الحالية تتجه نحو تخفيف القيود الرقابية وتبسيط الشروط، مما يسهل إتمام الاندماجات بين الشركات الكبرى.
سينكوتا: مخاوف الفيدرالي تشعل توتر الأسواق وتضغط على الأسهم

