محطة الفضاء الدولية
بينما يُنظر إلى الأقمار الصناعية على أنها أدوات للتنمية والاتصال والهيمنة التكنولوجية، فإن التكدس المتزايد لها دون بنية تنظيمية صارمة من شأنه أن يضع البشرية أمام خطر الاصطدامات المدارية، وما يترتب على ذلك من شلل لأنظمة الاتصالات والملاحة والأمن السيبراني العالمي.
وفي قلب هذا التحدي، تقف الولايات المتحدة أمام مفترق طرق حاسم، إذ أطلقت كبرى شركات الفضاء الأميركية ناقوس الخطر محذّرة من قرار حكومي بخفض تمويل مكتب التجارة الفضائية. وهذا الخفض، بحسب الشركات، يهدد سلامة العمليات المدارية، كما قد يؤدي إلى كارثة تقنية واقتصادية على المدى المتوسط.
في ظل هذا الواقع المربك، تتصاعد التحذيرات من خبراء الفضاء وصناع القرار، مطالبين بوقف هذا التوجه وتكثيف الاستثمار في أنظمة المراقبة والتنسيق الفضائي، خاصة في ظل الطفرة الهائلة في عدد الأقمار الصناعية التجارية.
ناقوس الخطر
- أطلقت مئات من شركات الفضاء الأميركية ناقوس خطر عاجل بشأن اقتراح الحكومة خفض التمويل المخصص لنظام تنسيق حركة المرور الفضائية المخطط له والمصمم لمنع الاصطدامات في المدار.
- أرسلت سبع منظمات تجارية تمثل أكثر من 450 شركة أميركية مرتبطة بالفضاء، بما في ذلك سبيس إكس وبلو أوريجين، رسالة إلى قادة الكونغرس تحذر من أن خفض التمويل بنحو 85 بالمئة لمكتب التجارة الفضائية من شأنه أن يعرض السلامة في الفضاء للخطر.
وقال توم ستروب، رئيس رابطة صناعة الأقمار الصناعية، التي تمثل أكبر مشغلي ومصنعي الأقمار الصناعية في العالم وكانت أحد الموقعين على الرسالة: “هذه قضية مثيرة للقلق الشديد”، بحسب ما نقلته صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية.
ويضيف: “لو كانت الصناعة تنمو بنفس وتيرة نموها قبل عشر سنوات، عندما كنا نُطلق عددًا قليلًا من الأقمار الصناعية إلى الفضاء، لكان الأمر مختلفًا تمامًا. بدلًا من ذلك، نُضيف آلافًا منها. إنه وقتٌ محفوفٌ بالمخاطر”.
- تتزايد المخاوف على مستوى العالم بشأن التوسع السريع لما يسمى بالمجموعات الفضائية الضخمة مثل Starlink التابعة لإيلون ماسك، والتي وضعت في غضون خمس سنوات أكثر من 7000 قمر صناعي في مدار أرضي منخفض لتوفير الاتصال بالأماكن الأكثر بعدًا على الكوكب.
- بدأت شركة أمازون في إطلاق كوكبة النطاق العريض الخاصة بها، مشروع كويبر، والتي تهدف إلى إطلاق 3000 قمر صناعي في المدار.
- في حين تخطط الشركات الصينية لإطلاق كوكبتين على الأقل بإجمالي 26000 قمر صناعي.
أصبحت إدارة هذه الحركة لتجنب الاصطدامات أكثر تعقيداً. وقد بيّن أستاذ علم الفضاء بجامعة ساوثهامبتون، هيو لويس مؤخرًا أن عدد مناورات ستارلينك قد زاد بنسبة 200 بالمئة في الأشهر الستة المنتهية بنهاية مايو مقارنةً بالأشهر الستة السابقة.
وفي الرسائل، التي تم تبادلها أيضًا مع وزير الدفاع بيت هيجسيث ووزير التجارة هوارد لوتنيك، حذرت المنظمات التي تمثل مصنعي ومشغلي الأقمار الصناعية وشركات تتبع الفضاء ومجموعات الدفاع والأمن، من مخاطر إلغاء تمويل مركز تنسيق حركة المرور في الفضاء ونظامه لتنسيق حركة المرور في الفضاء، المعروف باسم Tracss.
وتنص الرسائل على: “بدون تمويل لتنسيق حركة المرور الفضائية، فإن مشغلي الأقمار الصناعية التجارية والحكومية في الولايات المتحدة سيواجهون مخاطر أكبر – مما يعرض المهام الحيوية للخطر، ويرفع تكلفة ممارسة الأعمال التجارية، وربما يدفع الصناعة الأميركية إلى الانتقال إلى الخارج”.
تحذيرات
المستشار الأكاديمي في جامعة “سان خوسيه” الحكومية في كاليفورنيا، أحمد بانافع، يقول لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إنه في وقت يشهد فيه الفضاء القريب من الأرض ازدحاماً غير مسبوق بسبب الطفرة في إطلاق الأقمار الصناعية التجارية، تحذر كبرى شركات الفضاء الأميركية من تراجع قدرة الحكومة على إدارة حركة المرور الفضائية، ما ينذر بمخاطر جدية على استدامة العمليات المدارية وسلامة الاستثمارات الفضائية”.
يتحدث بانافع في المقام الأول عن معضلة “نقص التمويل” والخلل الكائن في “البنية التنظيمية”، مشيراً إلى أن تخفيض التمويل الفيدرالي المخصص للجهات المختصة بتنظيم ومراقبة الفضاء -مثل الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي ووكالة ناسا وقيادة الفضاء الأميركية- أثار قلقاً واسعاً في أوساط شركات التكنولوجيا والفضاء الخاصة. وأفادت تقارير بأن برامج تطوير البنية التحتية لرصد وتتبع الأجسام الفضائية تشهد تباطؤاً كبيراً، وسط ضعف الموارد البشرية والتقنية.
ويستطرد:
- تشهد السنوات الأخيرة ثورة في إطلاق ما يُعرف بـ”الكوكبات الصناعية”؛ مئات وآلاف الأقمار الصغيرة التي تطلقها شركات مثل SpaceX وAmazon وOneWeb لتوفير خدمات الإنترنت والمراقبة. بخلاف عشرات الآلاف من الأقماء المتوقع إطلاقها.
- لكن هذه الطفرة التقنية يصاحبها ارتفاع كبير في احتمالية التصادم بين الأجسام المدارية، ما قد يُحدث كارثة على مستوى القطاع بأكمله، ويعطل أنظمة حيوية تشمل الاتصالات والملاحة الجوية والإنترنت والأمن القومي.
- تشير الدراسات إلى أن أي تصادم بين قمرين صناعيين قد يؤدي إلى آلاف القطع من الحطام الفضائي، ما يفاقم أزمة “الازدحام المداري” أيضاً.
- تكرار مثل هذه الحوادث قد يُدخل العالم في سيناريو “متلازمة كيسلر”، حيث تصبح بعض المدارات ملوثة بشكل دائم وغير صالحة للاستخدام.
- تمثل هذه التهديدات خطراً مباشراً على الاستثمارات الخاصة في قطاع الفضاء.. كما تنذر بإبطاء النمو المتسارع الذي يشهده الاقتصاد الفضائي.
وفي ظل هذه التحديات، يشير إلى الدعوات الملحة المرتبطة بما يلي:
- زيادة الدعم المالي للمؤسسات الفيدرالية الأميركية المختصة بإدارة الفضاء.
- تطوير بنية تحتية رقمية متقدمة لرصد وتنبؤ المخاطر المدارية.
- وضع تشريعات ملزمة تنظم إطلاق الأقمار الصناعية وتُلزم الجهات التجارية بخطط تفصيلية لتفادي التصادم وإزالة الحطام الفضائي.
- أهمية بناء إطار تعاون دولي شفاف لإدارة حركة المرور الفضائي، مشابه لما تقدمه منظمة الطيران المدني الدولي في قطاع الطيران.
صناعة الفضاء الأميركية
ولا تقتصر الضغوط على مكتب التجارة الفضائية، بل تمتد إلى الوكالات الكبرى مثل ناسا. ويشير تقرير لـ “رويترز” إلى أنه في ظل إدارة الرئيس دونالد ترامب، شهدت صناعة الفضاء الأميركية والقوى العاملة في وكالة ناسا والتي تضم 18 ألف موظف تراجعا كبيرا في الأشهر الأخيرة بسبب تسريح العمال المحتمل وتخفيضات الميزانية المقترحة التي من شأنها إلغاء العشرات من البرامج العلمية، في حين تظل وكالة الفضاء الأميركية بدون مدير مؤكد.
“Deep Space Initiative”: الإمارات تعتبر رائدة في قطاع الفضاء
ويبدو أن مرشح ترامب لمنصب مدير وكالة ناسا، حليف ماسك ورائد الفضاء الخاص الملياردير جاريد إسحاقمان، كان ضحية مبكرة للخلاف بين ماسك والرئيس عندما استبعده البيت الأبيض فجأة من قائمة المرشحين في الشهر الماضي، مما حرم ماسك من اختياره لقيادة وكالة الفضاء.
وذكرت صحيفة بوليتيكو، الأربعاء نقلا عن وثائق حصلت عليها، أن نحو 2145 موظفاً رفيع المستوى في إدارة الطيران والفضاء الأميركية (ناسا) من المقرر أن يغادروا وظائفهم في إطار حملة لتسريح الموظفين.
وذكر التقرير أن معظم الموظفين الذين يغادرون يعملون في مناصب من الدرجة GS-13 إلى GS-15، وهي مناصب حكومية رفيعة المستوى، مضيفاً أن الوكالة عرضت على الموظفين التقاعد المبكر وشراء الوظائف والاستقالات المؤجلة.
أزمة في الفضاء
وإلى ذلك، يوضح أستاذ علم الحاسوب وخبير الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا المعلومات في السيليكون فالي كاليفورنيا، الدكتور حسين العمري، لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” أن:
- الفضاء القريب من الأرض – المدار الأرضي المنخفض – بات أشبه بـطريق سريع مزدحم يفتقر لإشارات مرور، في وقت تتسارع فيه شركات التكنولوجيا إلى احتلال مواقعها في السماء.
- في هذا المدار الذي يدور على ارتفاع مئات الكيلومترات فقط من سطح الأرض، تحلّق آلاف الأقمار الصناعية، معظمها أُطلق خلال السنوات الخمس الأخيرة.
- شركات مثل SpaceX وAmazon تسابق الزمن لنشر كوكبات فضائية تضم عشرات الآلاف من الأقمار لتوفير الإنترنت عالميًا، بينما تتطلع الصين والاتحاد الأوروبي إلى مشاريع موازية.
- لكن وسط هذا الزخم، تصاعدت أصوات القلق والتحذير في أروقة شركات الفضاء الأميركية، لا سيما مع التخفيض الحاد والمفاجئ في التمويل الحكومي لأنظمة مراقبة الحركة المدارية.
ويلفت في هذا السياق إلى ميزانية البيت الأبيض للعام 2026 والتي تخصص 10 ملايين دولار لمكتب التجارة الفضائية التابع للإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي، وهو ما يمثل خفضا بنسبة 84 بالمئة من تمويل المكتب لعام 2025، الأمر الذي من شأنه إنهاء نظام تنسيق حركة المرور في الفضاء (TraCSS)، وهو نظام مدني يساعد في منع تصادم الأقمار الصناعية وتنبيه المشغلين إلى الحوادث المحتملة.
يشار إلى أنه في اقتراح ميزانية عام 2026، قالت الحكومة إن التأخير في تنفيذ نظام Tracss يعني أن القطاع الخاص قد “أثبت الآن أنه يمتلك القدرة ونموذج العمل لتزويد المشغلين المدنيين بالوعي الفضائي وبيانات إدارة حركة المرور الفضائية”. وقال البيت الأبيض يوم الثلاثاء: “إن حلول القطاع الخاص في هذه المرحلة تبدو أكثر واعدة وكفاءة في تحقيق غرض تراك”.
ويضيف: مديرو الشركات المتخصصة في الفضاء لم ينتظروا طويلًا؛ فقد خرجت بيانات متتالية تحذر من أن هذا القرار لا يعني مجرد تأجيل مشروع، بل قد يقود إلى كارثة حقيقية، وقالوا: “لا يمكننا قيادة السيارات دون إشارات مرور. فلماذا نغامر بالفضاء؟”.
وينبه أن المشكلة ليست في عدد الأقمار الصناعية فقط، بل في التزاحم ضمن نفس طبقات المدار. كما أن معظم هذه الأقمار تدور على ارتفاع يتراوح بين 300 إلى 1,200 كيلومتر. وهذا يعني أن الاصطدام، ولو بقطعة صغيرة من الحطام، قد يؤدي إلى تدمير قمر صناعي بالكامل، لافتاً في الوقت نفسه إلى أن الخبراء يحذّرون من ظاهرة تُعرف بـمتلازمة كيسلر، وهي سيناريو مخيف يتوقع أن يؤدي تصادم واحد إلى سلسلة من الاصطدامات المتتالية، بحيث يولّد الحطام حطامًا إضافيًا، إلى أن يتحوّل المدار إلى حقل ألغام يصعب استخدامه لعقود.
اقتصاد الفضاء يتجاوز نصف تريليون دولار