جعل تطور التكنولوجيا والعولمة الاقتصادية العالم أكثر ترابطًا وتواصلاً من أي وقت مضى. وفي هذا السياق، أصبحت شبكات المدفوعات والتحويلات الدولية أمراً محورياً لدعم التجارة الدولية والعلاقات الاقتصادية بين الدول.
ومع ذلك، تظل هناك عديد من التحديات والمشكلات التي تواجه هذه الشبكات الحالية، وتجعل السؤال حول ما إذا كان العالم بحاجة إلى شبكة مدفوعات أفضل عبر الحدود يستحق النقاش.
من أهم هذه المشكلات هو البطء في إتمام عمليات التحويل الدولي، إذ تحتاج بعض التحويلات أياماً وربما تتجاوز الأسبوع في بعض الأحيان للانتهاء، ما يمكن أن يتسبب في تأخير الأعمال التجارية والمعاملات الشخصية. بالإضافة إلى ذلك، هناك اختلاف كبير في الإجراءات واللوائح المتبعة بين الدول المختلفة، بما يجعل من الصعب فهم الكيفية التي يجب أن يتم بها التحويل والتعامل مع متطلبات الأمان في كل دولة.
كما أن ارتفاع رسوم ومصاريف التحويل أيضاً مشكلة مؤرقة. فقد تتراوح تكاليف التحويل بين البنوك ومقدمي خدمات التحويل من مرتفعة إلى غير معقولة في بعض الأحيان، مما يؤدي إلى خسارة أموال طائلة للأفراد والشركات على مدار الزمن.
وتبعاً لذلك فإنه من الأهمية بمكان وجود شبكة مدفوعات أفضل عبر الحدود، يمكنها إتاحة التحويلات السريعة والموثوقة عبر الحدود، وتوحيد الإجراءات واللوائح الدولية، وتقليل تكاليف التحويل لتعزيز التجارة وتسهيل الحياة للأفراد والشركات على حد سواء. وهذا سيكون خطوة مهمة نحو تعزيز التكامل الاقتصادي وتعزيز الاستقرار العالمي.
طفرة في المدفوعات
بحسب عضو المجلس التنفيذي للبنك المركزي الأوروبي، المصرفي الإيطالي البارز، فابيو بانيتا، في مقال له بصحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية، فإن:
- العالم شهد خلال العقود الأخيرة طفرة في المدفوعات عبر الحدود. جاءت تلك الطفرة بدفع من عولمة التجارة ورأس المال، وتدفقات الهجرة.
- من المتوقع، وفقاً لإحدى الدراسات، ارتفاع حجم المدفوعات العالمية من 190 تريليون دولار مقدرة في العام الجاري 2023 إلى 290 تريليون دولار بحلول العام 2030، وهو رقم وصفه بـ “المذهل”.
- رغم النمو “المذهل” تظل المدفوعات عبر الحدود “باهظة التكلفة وبطيئة”، الأمر الذي يؤثر سلباً على الفئات الأكثر ضعفاً.
تثير تلك المعضلة التي يتحدث عنها المصرفي الإيطالي البارز، ثلاث قضايا رئيسية ملحة، تتأكد معها الحاجة لشبكة تحويلات دولية أفضل عبر الحدود، وهي:
- التأثير على التكامل الاقتصادي: إن المدفوعات باهظة الثمن والبطيئة تعيق التكامل والنمو. ذلك أن تكاليف المدفوعات عبر الحدود وتعقيدها تمنع عديداً من الشركات الصغيرة ومتوسطة الحجم من التوسع عبر الحدود.
- التأثير على الفئات الأكثر ضعفاً: يدفع السكان الأكثر ضعفاً في العالم أكثر من غيرهم بشكل غير متناسب. يمكن أن يواجه العمال المهاجرون (..) تكاليف باهظة عند إرسال الأموال إلى أوطانهم.
- مخاطر الفرص البديلة: حددت الجهات الفاعلة البديلة أوجه القصور هذه باعتبارها فرصة تجارية، ولكن الحلول التي تقدمها تحمل مخاطر كبيرة.
ويضرب مثالاً بـ “العملات المشفرة غير المدعومة بالأصول”، ويقول إنها “متقلبة في جوهرها وتشبه المقامرة”. حتى تلك الرموز المشفرة التي تعتبر عملات مستقرة لا يمكنها ضمان قابلية التحويل على قدم المساواة في جميع الأوقات.
ثلاث إشكاليات رئيسية
الخبير الاقتصادي والمستثمر في رأس المال المخاطر، سليمان العساف، يقول في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إنه رغم التقدم الهائل بالنسبة للمدفوعات والأنظمة المالية والتقنيات المختلفة، إلا أن ثمة عديداً من الأمور “المزعجة” بالنسبة للتحويلات، والتي لا تتعارض وهذا التقدم الكبير.
- الأمر الأول يتعلق بـ “بطء التحويلات”؛ ذلك أنه أحياناً ما تستغرق التحويلات ثلاثة أيام وربما تصل إلى خمسة أو سبعة أيام في بعض المناطق، وهذه معضلة كبيرة، تتعارض والقدرات التقنية العالمية التي تستطيع في دقائق معدودة الوصول لأي مجال.
- الأمر الثاني يتعلق بـ “التعقيدات في الإجراءات”، بما في ذلك الاختلافات بين الأنظمة في كل دولة؛ فثمة أنظمة تعتمد على رقم الحساب المصرفي الدولي (IBAN)، وأخرى تطلب الـ swift code، كذلك بعض الدول تطالب حتى بمعلومات مختلفة عن المرسل وعنوانه وهاتفه وبريده الإلكتروني وعنوان المصرف، وغيرها من البيانات التي قد لا يكون بعضها متوفراً لدى البعض.
وبالتالي “من الضرورة بمكان العمل على اعتماد سياسة موحدة، سهلة وبسيطة، من أجل تسهيل عمليات التحويلات، ولتجنب الأخطاء والمشاكل، بما في ذلك المشكلات المرتبطة بتعثر إرسال الأموال ومن ثم إعادتها أو وصولها بالخطأ لآخرين، كذلك الإشكاليات المتعلقة بـ “الحوالات المعلقة”؛ ففي بعض الأحيان تظل الحوالات معلقة بين الراسل والمرسل إليه بسبب الأنظمة المختلفة والبيانات.
- الأمر الثالث، بحسب العساف، يتعلق بـ “الرسوم”. ويقول في هذا الصدد: “إن إجمالي التحويلات العالمية العام الماضي بلغ حوالي 630 مليار دولار، وتظل مسألة الرسوم على التحويلات مشكلة مزعجة، لا سيما مع وجود ربما خمس عمليات اقتصاص يمكن أن تتعرض إليها تلك التحويلات، من بينها رسوم التحويلات وفارق العملة والرسوم الإدارية ورسوم المنبع والمستقبل وغيرها بحسب النظام المعمول به”.
ويشار هنا إلى ما ذكره عضو المجلس التنفيذي للبنك المركزي الأوروبي، في مقاله المشار إليه، بخصوص أن “متوسط رسوم المدفوعات الدولية يبلغ حالياً 1.5 بالمئة للشركات و6.3 بالمئة للتحويلات المالية.. وقد يستغرق الأمر ما يصل إلى عدة أيام حتى تصل هذه المدفوعات إلى المستلم”.
كما أنه “في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى -على سبيل المثال- تصل تكلفة إرسال التحويلات المالية إلى الخارج إلى 8.4 بالمئة. ومع وصول التحويلات إلى 626 مليار دولار في العام 2022، فإن “حتى تخفيض بسيط بنسبة نقطة مئوية واحدة في الرسوم سيوفر لمن هم في أمس الحاجة لذلك 6 مليارات دولار كل عام”، بحسب المصرفي الإيطالي البارز.
توفير البدائل
ويضيف العساف: “تبعاً لذلك يتعين أن تكون هناك نسب أقل وواضحة لتسريع العملية، وزيادة التحويلات الشرعية، وتجنب ما يقوم به البعض (على مستوى الأفراد) من طرق ملتوية (للتحايل على الإجراءات) أو الاضطرار لحمل الأموال نقداً أو تحويلها إلى ذهب (..) كذلك من المهم تسهيل العمليات من أجل تقليل التعامل في المنطقة الرمادية أو السوق السوداء”.
وهو ما أكده عضو المجلس التنفيذي للبنك المركزي الأوروبي، في مقاله، حين دعا إلى ضرورة “توفير بديل أكثر أماناً ويسهل الوصول إليه ويجعل المدفوعات العالمية أرخص وأسرع وأكثر شفافية”.. ويقدم رؤية في هذا السياق، تتلخص فيما يلي:
- يوجد الآن أكثر من 70 نظاماً محلياً للدفع السريع حول العالم. ومن خلال ربطها معاً، فإن فوائد الرقمنة سوف تمتد أخيراً بشكل أكثر اكتمالاً إلى المدفوعات عبر الحدود.
- من شأن مثل هذه الخطوة أيضاً أن تعمل على تحسين الكفاءة من خلال تقصير سلاسل المعاملات وضمان المزيد من الاتصال المفتوح بين أنظمة الدفع، مع الاعتراف بذلك باعتباره منفعة عامة.
- بالنسبة لعديد من الاقتصادات النامية التي لا تمتلك حالياً أنظمة للدفع السريع، سيكون من المهم الاستفادة من المعايير الدولية لتعزيز قابلية التشغيل البيني عبر الحدود. ومن خلال توفير المساعدة الفنية والتمويل، تستطيع المنظمات الدولية تقديم دعمها لمواصلة تطوير الأنظمة المحلية للمدفوعات عبر الحدود.
البنية التحتية
من جانبه، يقول الخبير الاقتصادي، محمد الرمضان، في تصريحات خاصة لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إن ثمة إشكالات فيما يخص منظومة التحويلات، لكنها ليست بالنسبة لجميع الأنظمة، مشدداً على أن المشكلة تبزغ بشكل أوسع في الدول التي تعاني من عدم وجود بنية تحتية مصرفية جيدة ومشكلات داخلية.
ويستطرد: “الحاجة كبيرة لشبكة مدفوعات دولية أفضل، بينما المسألة تصطدم بعوائق قانونية فيما يخص نقل الأموال من دولة لدولة ومن قانون لقانون ومنطقة لمنطقة.. ومن ثم يتعين أن يكون هناك تعاون دولي كبير وليس داخلياً فقط على مستوى الدولة الواحدة.. كما يتعين على كل دولة أن تجهز أنظمتها المالية وأنظمة المدفوعات للتعاون مع باقي الدول بنفس الطريقة، وأن تكون هناك ثقة متبادلة بين البنوك، على أساسها لا يحتاجون إلى وسيط في التعاملات، لا سيما وأن هذه الوساطات ربما تخلق إشكالات مرتبطة بزيادة التكلفة”.
ويضيف الرمضان: “نحن بحاجة لنظام مدفوعات دولي مدعوم من صندوق النقد الدولي، لكي يحقق مزايا أكبر من ناحية السرعة ومن ناحية التكلفة أيضاً”، موضحاً أن “هناك أنظمة مالية عديدة قللت التكاليف بشكل كبير بين دول معينة فيما بينها، لكن هناك دولاً لم تستفد من هذه الأمور؛ نظراً لعوائق كثيرة، منها القانوني أو أن النظام المالي بتلك الدول غير موثوق به من قبل الأنظمة المالية الأخرى”.
ويشدد على أن ثمة حاجة ماسة لمشروع متكامل يقضي على كل هذه العوائق، وبالتالي تكون التحويلات المالية أسرع وأرخص، وبينما تتوافر إمكانات ذلك، فإن السؤال هو مدى الرغبة في التغيير لدى الجميع. ويوضح أن الأمر يحتاج لجهد دولي كبير، وهناك عمل يتم في هذا الإطار، والدائرة بحاجة إلى أن تتوسع بشكل أكبر.
آلية تسوية المدفوعات في أوروبا
وفي هذا السياق، يستدل المصرفي الإيطالي، في مقاله المذكور، بالوضع في أوروبا، حيث آلية تسوية المدفوعات الفورية المستهدفة في منطقة اليورو، وهي عبارة عن تسهيلات على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع للمدفوعات الفورية التي تبدأها البنوك المشاركة مباشرة. وهي أيضاً مركز مركزي يربط بين أنظمة الدفع السريع المتعددة ويضمن وصول المدفوعات الفورية إلى جميع أنحاء القارة.
يمكن أن يعمل هذا النموذج أيضاً عبر عملات متعددة. فيما يستكشف البنك المركزي الأوروبي وبنك السويد المركزي، الحلول الممكنة للمدفوعات الفورية بين العملات بين اليورو والكرونة السويدية. ويعمل مجلس المدفوعات الأوروبي حالياً على وضع خطة لتوحيد منطقة اليورو في التحويلات الائتمانية الدولية الفورية.
ويختتم مقاله بالإشارة إلى أنه:
- من الأهمية بمكان تعزيز التعاون واستكشاف الحلول التقنية مع موائمة المصالح السياسية.
- يشكل تحسين المدفوعات عبر الحدود تحدياً معقداً يتطلب جهوداً متضافرة من أصحاب المصلحة في القطاعين العام والخاص.
- من الممكن أن تمهد مثل هذه الجهود الطريق لشبكة عالمية من الأنظمة السريعة التي تمكن من إجراء مدفوعات فورية ومنخفضة التكلفة وشفافة ويسهل الوصول إليها عبر الحدود.
#آلية المدفوعات
#المدفوعات الرقمية