مع الأيام الأولى لتصاعد العنف المسلّح بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية على إثر عملية “طوفان الأقصى” التي أقضّت مضجع إسرائيل، سارعت الولايات المتحدة الأمريكية لإرسال بوارجها البحرية إلى المنطقة بهدف معلن هو “الردع”.. ردع إيران وأذرعها – على رأسها حزب الله – من الانخراط في النزاع الدائر دعماً للفصائل في غزة.
يمثّل عامل الردع في نهاية المطاف جواباً عن مسألة جدوى لجوء أحد الأطراف إلى أعمال حربية. وكقاعدة: إن عامل الردع يؤدي دوره حينما يقدّر أحد الأطراف – رغم الإغراء أو الحافز اللذين يدعوانه إلى العمل – أن الشروع بالحرب ليس مُجدياً له؛ بمعنى أن خسارته ستضاهي مكاسبه. وبعبارة أخرى: إنه سيُمنى بهزيمة وسيدفع ثمناً باهظاً من مقدّراته القومية.
يرى منظّرو الإستراتيجية والأمن القومي أن الردع لكي يكون فعّالاً لا بد من توفّر ثلاثة عناصر رئيسية تدعمه، وهي:
1- إظهار المقدرة على الثأر أو إلحاق الضرر الجسيم بالخصم، ويكون ذلك من خلال الدعاية لهذه المقدرة لتأكيد فعاليتها للطرف الآخر.
2– قوة المقدرة الثأرية، بحيث يكون باستطاعتها إلحاق الضرر بالخصم بدرجة تفوق ما قد يتوقّعه من مزايا نتيجة المبادأة بالضربة الأولى، حيث إن رد الفعل سيكون ساحقاً لدرجة غير محتملة.
3– التصميم على استعمال هذه المقدرة الثأرية في ظروف معينة بعيداً عن الاستعداد للمساومة أو التخاذل أو التراجع؛ ذلك أنه إذا أحس الطرف الثاني باستعداد الطرف الرادع للتراجع أو المساومة فإنه يعمد إلى ممارسة بعض الضغوطات والتصرفات التي لن تكون في مصلحة الرادع. ومن هنا يكون تأثير الردع ضعيفاً.
وفي ظل غياب العنصر الثالث بشكل واضح (التصميم على استعمال المقدرة الثأرية)؛ يبدو أن إدارة “بايدن” قد تورطت باتخاذ هذا الموقف، ورطة تشبه إلى حد بعيد ورطة “أوباما” عندما أعلن عن خطوطه الحمراء للنظام السوري، ثم بدا مرتبكاً عندما تجاوز النظام السوري تلك الخطوط بناء على قراءة قدّمها له الحلفاء (روسيا وإيران) بأن الولايات المتحدة – في الوقت الراهن – غير قادرة على خوض حرب جديدة، لأنها ببساطة بعد حربيها الفاشلتين في العراق وأفغانستان أصبحت مصابة بـ “فوبيا الحروب”.
بعد حربهم الفاشلة في “فيتنام” احتاج الأمريكيون لأكثر من ثلاثين سنة للتغلب على هذه “الفوبيا”، لكن المغامرة الجديدة في أفغانستان والعراق أعادتهم إلى المربع الأول. للوهلة الأولى؛ ونتيجة التعاطف الكبير الذي أبداه الأمريكيون مع الإسرائيليين؛ ظن البعض أن الأمريكيين تغلبوا بسرعة على مخاوفهم من الحروب المفتوحة والممتدة، ولكن آخر استطلاعات الرأي بين الأمريكيين أظهرت أن 65% منهم يرفضون أن ينخرط بلدهم في حرب جديدة، وأن الأغلبية تؤيد تقديم المساعدات لإسرائيل دون الانخراط في الحرب.
الحقيقة الأخرى التي ينبغي ذكرها؛ أن الإدارة الأمريكية التي تضع جل اهتمامها في مقارعة روسيا والصين ليس لديها الرغبة في خوض صراعات جانبية، حتى وإن كان المزاج العام في الشارع الأمريكي يساعد على ذلك. بناء على هذا الموقف الواضح والمكشوف بدأت إيران تمارس بعض الضغوط على الأمريكيين؛ من ذلك الإيعاز لبعض جماعاتها بالتحرش بالقواعد الأمريكية في المنطقة، والإعلان عن خطوط حمراء لا يسمح بتجاوزها. لقد أصبح الأمر يبدو وكأن إيران هي التي تردع الولايات المتحدة عن استخدام قوتها الضاربة ضد أذرع إيران، لأن هذا سوف يشعل المنطقة برمتها ولن يكون مجرد نزهة.
تعلم إيران أن المبالغة في استفزاز الولايات المتحدة لن تكون سلوكاً حكيماً، فالرئيس الأمريكي “جو بايدن” بحاجة لما يحفظ به ماء وجهه، وإذا كانت روسيا قد قدّمت لـ “أوباما” التخلص من الأسلحة الكيماوية للنظام السوري، فإيران مطالبة بضبط إيقاع حزب الله وبعض الفصائل والميليشيات المتمركزة في شمال إسرائيل وفي الشرق منها عند جبهة الجولان، ولكن هذا لن يكون من دون أن تقوم الولايات المتحدة بكبح جماح إسرائيل وضبط إيقاع هجومها الوحشي على غزة. بالمختصر؛ يجب أن تتراجع إسرائيل عن أهدافها المعلنة، سواء فيما يخص العملية البرية واسعة النطاق، أو التصميم على استئصال حماس، أو حتى المبالغة في استخدام القوة المفرطة.
إذن، فالمساومة بدأت تأخذ مجراها، وها هي الولايات المتحدة تطالب بتأجيل عملية الاجتياح البري تارة، وتُلحّ على إسرائيل بعدم استفزاز حزب الله أو بعدم الانجرار وراء استفزازاته تارة أخرى، فالولايات المتحدة التي أرسلت بوارجها من أجل الردع وجدت نفسها مضطرة لردع حليفها قبل عدوها، ذلك لأن قوة الردع لديها منقوصة ضعيفة التأثير تفتقر لعنصر التصميم على استعمال المقدرة الثأرية.
في الواقع لو أن الولايات المتحدة اكتفت بتقديم الدعم السياسي واللوجستي دون أن ترسل بوارجها بهدف الردع لكان الموقف الإسرائيلي أكثر تحرراً.