ما الوعي الذي على الطوائف والملل أن تملكه في هذا الوقت المتفجر إلى صراعات ثقافية وطبقية، وهوياتية ؟، وكيف لنا أن نقدم البديل الجديد الذي يستطيع أن يأخذ مكان التعيين التاريخي للوجود الطائفي والإثني؟، أي عندما نقول فلان درزي أو علوي أو كردي أو أو.. الخ، فهذا يعني أنه تعيين بعلاقته مع نحلته أي إن الوجود التاريخي قد وحد سلوكه وتفكيره ووعيه معاً، وهو يعني موقف هذا الفرد من وعي عالمه كله.
لاشك أن هناك مراحل سبقت تشكل هذه المرحلة العقائدية ومراحل تشارك مع البشرية كلها، في أطوارها وأكوارها، مراحل مارس فيها العقل البشري مغامراته الأولى، وعبر تراكم التجربة في العمل والحياة المجتمعية وصل إلى مرحلة معرفية أكثر تقدماً وبتطور اللغة الذي رافق تطور التجربة، وصل إلى مرحلة الوعي بأقانيم الحياة الكبرى.
وفي مرحلة تالية أكثر تقدماً، أخذ يفكر مستقلاً، ولكن ليس كل الاستقلال فالمحيط الذي كان وعاء وعيه، بقي حبلاً سرياً يربطه إلى هذا الرحم، وهنا تكمن المعضلة في المواجهة، وستكون تجربة ملتي وطائفتي منطلقي للحديث عن هذا التشابك الذي يكون بمكان وزمان ما ضرورياً جداً، وبمكان آخر عامل هدم ونكوص.
الطائفة الدرزية التي دخلت طور عقيدتها التوحيدية في القرن الحادي عشر صار لديها مخيال وتصورات ورؤى ومذهب له نظريته، وعقيدته، وصار لزاماً أن يكون للطائفة وعيها الخاص بالعالم ثم الوطن وعياً منتجاً للصراع والتناقض مرات كثيرة.
فمثلاً الدروز لا يمكن أن يطمحوا للسلطة فهي لا تعنيهم إلا بمقدار ما تحقق لهم الاستقرار والأمن هذا في المعتقد، وأن الآخر غير موجود إيمانياً وافتراضاً وموجود بحكم التعايش والسكن والتعامل اليومي والمعشري.
و ليس للدروز نية التبشير، فجلّ ما يطمح إليه رزق حلال طبعاً هذا الحلال حسب ارتسامات العقيدة، الأمر الذي يقتضي بالضرورة علاقات حسن الجوار، بل المسالمة إلى حد الاعتداء على الأرض، والتي هي بعرفهم وعقيدتهم ناموس أساس يخص الشرف والكرامة.
ومن الجدير بالذكر أن الدروز دينياً في حالة تقنين قوية في جرعات التدين، فعلوم الدين للخاصة بل لخاصة الخاصة، وأما العوام ما عليهم أي تكليف طقسي وكل ماهو مطلوب الالتزام بمسالك الصدق والأمانة والنخوة وإكرام الجار والضيف وإغاثة الملهوف، وما شابه.
وبعد كل هذا التأسيس لأُقدم كيف يفهم الدروز الهوية والانتماء مع التأكيد الشديد على تتبع منبعهم العروبي أو اقتفاء أثرهم في حروب مصيرية جابهت الأمة العربية والإسلامية كانوا فيها أبطالاً وشهداء، ونبدأ ما أمكن ببسط معالم الأدلوجة الدرزية والتي تبدأ بتفاخرها باللغة التي تنطق كما تنطق في اللغة العربية الفصحى، لغة القرآن تقريباً، وبهذا يريد االدروز الختم على عروبتهم الصادقة، ورغم أن الدروز لهم كتب خاصة إلا أنهم بعتدون بالقرآن كشاهد حسم وفصل في قضايا معينة.
اللغة والجغرافيا
وبهذه اللغة استطاع الدروز نقل تاريخهم من ألفه إلى يائه للأجيال تاريخ البدايات وتاريخ المعارك، ومع الأرض تكتمل الأدلوجة وتصل للمقدس فعلى هذه الارض، سقطنا ضحايا، وعليها خضنا صراعنا مع العالم وعليها انتصرنا وهكذا تصبح الجغرافيا مع العقيدة جزءاً كبيراً من الهوية الموعى بها، وهنا نبلغ أول مداميك أولية لمجتمع مغلق ينظر للآخر ريبة إذا تهدد وجوده وبالنحن التي تجمعنا. خوفاً من مجاهيل المتغيرات المهددة للوجود.
و عندما يتعلق الأمر بالجغرافيا الكبرى يصبح الدروز فصيلاً يقف بالمقدمة وبالمعنى الأقلوي سياسياً وثقافياً لعب البعث لعبته وما زال مع قوى التدخل الإيراني في المنطقة، ولا ندعي أننا واجهنا ترسيخ الهويات الأولية وحدنا، فنحن في هذا سواء مع الأقليات المتنوعة الأخرى، وهنا يذهب الدروز في عملية صراع مع السلطة لتحديد هويتهم وفق معاييرهم الخاصة، وأعتقد في ظل الواقع السوري الذي أربكه التعقيد والتشابك المفتعل من قبل السلطة يلجأ بعض الدروز إلى توليف هوية وانتماء أولي فيها مخيال وسرد أكثر بكثير من الحقيقة. معتقدين أن ذلك هو حبل النجاة من محيط متلاطم الأمواج يهدد بالغرق والموت كل لحظة.
ومن هنا تملك هوية الدروز المؤلفة في أيام العسرة والمكابدة قدرة خاصة على الحشد والشواهد حاضرة في أذهان الجميع لأنها مازالت حية، وراهنية، ولكن لم يحتشد الدروز على نفس الصورة في مقاومة النظام وكانت المقاومة. على كاهل أفراد ونخب، الأمر الذي يثير الدهشة.
وأعتقد أن الدروز في هذا كما أسلفت يتمسكون حتى النهاية بفلسفة المسالمة، واعتقادهم أن أوان المعركة الفاصلة لم يأت بعد، وعندما ينضج الأوان سيكون تدخلهم هو القول والفعل الفصل.
ولما كانت اللحظة التاريخية حسب تصورهم لم يأت أوانها بعد، إذاً لا بد من استحضار الماضي بوعي خاص تفرضه العقيدة الدرزية، وزاد الأمر الواقع السوري والمجتمع السوري الذي أخذ يستحضر الماضي أمام الإفلاس والهزائم، فالدرزي له واقع خاص وواقع عام يفرضه السباق والمتغيرات.
ويدرك الدروز اليوم أن النظام يلبس الهزيمة ثياب الانتصار و يستثمر في الوهم والكذب عبر أدوات متعددة ، ولما كان هذا واقع الحال فلم لا يستحضر هو الآخر تاريخاً عربياً عاماً أو سورياً أو خاصاً درزياً حسب هويتها الأولية
ولذلك يقتضي التماهي مع حركة هنا، أو هناك الفزعة.
وقد تكون الحركة مفبركة ومولفة، ولكن الدرزي الأقلوي المحارب بقمع من الآخر ومن السلطة، يريد أن يحدد هوية مبالغاً في الذاتية مؤكداً بكل بيان أن المجتمع المهزوم على كل صعيد لا يمكن أن ينجز هوية ناجزة، لذلك الدرزي كما أي سوري يستحضر الماضي ويؤلف هوية معتقداً أنه يجيب على السؤال المعضلة ما هو الوعي بالوطن وما هي الهوية؟!