وفي الوقت الذي تراهن الأطراف الوسيطة على تثبيت وقف إطلاق النار وفتح الطريق أمام إعادة الإعمار، تلوح في الأفق مؤشرات مقلقة من تصعيد إسرائيلي متكرر في جباليا والمناطق الشرقية من مدينتي خان يونس وغزة، إلى خروقات أمنية تنسب إلى عناصر متشددة داخل حماس، ما يجعل مصير الاتفاق رهينًا بقدرة الطرفين على كبح اندفاعهما.
بدوره، يواجه نتنياهو انقسامات عميقة ضمن تحالفه اليميني المتشدد، فرغم موافقته لخطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، يتعرض لرد فعل عنيف من وزراء مثل بن غفير وسموتريتش الرافضين لأي شكل يبقي حماس ويوقف الحرب، وفي المقابل تتصاعد المخاوف في غزة وخارجها من مسألة الإعدامات التي تقوم بها عناصر حماس بحق فلسطينيين بتهم التخابر مع إسرائيل.
واهتز وقف إطلاق النار الذي استمر 10 أيام في غزة يوم الأحد بعد حادث مقتل جنديين إسرائيليين، مما دفع إسرائيل إلى شن موجة من الغارات الجوية على القطاع، أسفرت عن مقتل 44 فلسطينيًا، في حين نفت حماس تورطها في الهجوم.
ويرى محللون في حديثهم لموقع “سكاي نيوز عربية” أن اتفاق غزة يقف اليوم أمام اختبار بالغ الحساسية، بالنظر إلى مواقف طرفي الصراع؛ فنتنياهو يتعامل مع الاتفاق كتكتيك سياسي لتخفيف الضغوط الدولية الداخلية عليه، أكثر من كونه التزامًا استراتيجيًا نحو تسوية دائمة، في حين تتعامل الفصائل الميدانية التابعة لحماس بشكل منفلت، ما قد يمنح تل أبيب ذريعة لوقف المسار السياسي”.
خروق متبادلة
ويرى أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية ورئيس وحدة الدراسات الفلسطينية والإسرائيلية بمركز دراسات الشرق الأوسط، طارق فهمي، أن المرحلة الحالية من اتفاق غزة شهدت خروقات محدودة من الجانبين، الإسرائيلي وحماس، وهو أمر متوقع في مثل هذه الاتفاقات الحساسة، مؤكدًا أن تلك الخروقات “لا تمثل مؤشرًا على انهيار الاتفاق بقدر ما تعكس صعوبة ضبط المشهد الميداني وتعدد الأطراف الفاعلة على الأرض”.
وأوضح فهمي لموقع سكاي نيوز عربية، أن “الجانبين يختبران حاليًا حدود التزام كل طرف ببنود الاتفاق، وما يجري من تجاوزات جزئية لا يرقى إلى مستوى الإخلال بالاتفاق، خاصة في ظل المتابعة الدقيقة من قبل الوسطاء الدوليين والإقليميين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة ومصر وقطر”.
وأشار إلى أن الإدارة الأميركية تتعامل مع الاتفاق باعتباره اختبارا حقيقيا لمصداقيتها في إدارة هذا الملف، مشددا على أن “واشنطن لن تسمح بفشل هذا المسار بعد أن وضعت ثقلها السياسي فيه، خاصة أن وجود مسؤولين أميركيين كبار في مقدمتهم جي دي فانس نائب الرئيس الأميركي الذي وصل إسرائيل، يعكس اهتماما مباشرًا من الإدارة الأميركية بتثبيت الاتفاق وعدم السماح بعرقلته”.
ونقلت صحيفة “نيويورك تايمز” عن مسؤولين في إدارة ترامب قولهم إن البيت الأبيض يبذل جهودا مكثفة لئلا تجدد الحرب، وإن هناك قلقًا متزايدا من أن ينسحب رئيس الوزراء نتنياهو من الاتفاق أو يسعى إلى تقويضه.
وكانت “القناة 12” العبرية قد نقلت مصادر أن المبعوثين الأميركيين جاريد كوشنر وستيف ويتكوف أكدا لنتنياهو ضرورة عدم القيام بأي شيء قد يعرّض اتفاق غزة للخطر، وأنهما لوّحا بأنّ أي خطوة كهذه ستكون “مرفوضة”.
وشدد فهمي على أن “إدارة ترامب لن تسمح بإفشال الاتفاق برغم تربص بإفشال الاتفاق على الأرض، والمتربصين من الطرفين من قِبل حماس وكذلك ومن الجانب الإسرائيلي”.
وتشهد المنطقة حركة دبلوماسية كثيفة لضمان استمرار اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، فبالتزامن مع وصول دي فانس إلى تل أبيب، توجه رئيس المخابرات العامة المصرية حسن رشاد إلى إسرائيل، لعقد اجتماعات مع مسؤولين إسرائيليين والمبعوث الأميركي ويتكوف، بشأن تثبيت وقف إطلاق النار بقطاع غزة.
والتقى رئيس المخابرات المصرية برئيس الوزراء الإسرائيلي لدفع خطة الرئيس الأميركي بشأن غزة.
وقال مكتب نتنياهو في بيان أنهما ناقشا خلال اللقاء دفع خطة ترامب قدما، والعلاقات بين إسرائيل ومصر، وتعزيز السلام بينهما.
وحاولت إدارة الرئيس ترامب إرسال تطمينات للمنطقة، عندما قال فانس إنه يشعر بـ”تفاؤل كبير” بشأن صمود وقف إطلاق النار في قطاع غزة، مؤكدا أن تنفيذ ما وصفها “خطة ترامب” يسير “أفضل من المتوقع”.
لكن العصا لا تزال في يد ترامب للضغط على حماس، حيث هددها باللجوء إلى القوة لـ”تأديبها” إذا “أساءت التصرف”.
مخاوف واسعة
واعتبر الخبير المختص في الشؤون الشرق أوسطية والشأن الإسرائيلي، حسن مرهج، أن “الاتفاق القائم بين إسرائيل وحماس هو اتفاق هش ومتقلب، فالطرفين هما وسط تصرفات متسرعة قد تؤدي إلى انهيار الاتفاق والعودة إلى نقطة الصفر”.
وقال “مرهج” في تصريحات لسكاي نيوز عربية إن “الضغوط الأمريكية أجيرت نتنياهو على التراجع عن توسيع تصعيده العسكري في غزة، لكن في الوقت نفسه، تستمر داخل غزة حالات فوضى أمنية واشتباكات داخلية بين حماس وبعض العائلات، بالإضافة إلى عمليات إعدام غير قانونية في القطاع، وهذا الأمر يزيد من توتر الوضع ويهدد استقرار الاتفاق”.
وأشار إلى أن “حماس من جهتها تعمل على إعادة فرض قبضتها الأمنية وسط خشيتها من اضطرابات داخلية قد تفتح الباب للفوضى، وهذا يعكس هشاشة الواقع الأمني والسياسي في القطاع، وإسرائيل في المقابل لا تزال تعاني من هواجس عودة حماس إلى المشهد السياسي أو إعادة ضبط صفوفها عسكرياً، وبالتالي هناك ضرورات إقليمية ودولية للضغط على الطرفين للوصول إلى حل مستدام”.
وأوضح “مرهج” أن “سياسات نتنياهو وحكومة اليمين الحاكمة تمثل تهديداً مباشراً للاتفاق، إذ تتسم بتصريحات وتصرفات حادة تؤدي إلى تصعيد ميداني وسياسي، فالتوجهات اليمينية الحالية في إسرائيل تتجه لتشديد السيطرة على غزة وفرض خطة صارمة ضد حماس، بما فيها محاولات نزع سلاحها بشكل كامل وتهميشها سياسياً، فضلاً عن إجراءات أمنية إضافية، ما ينذر في أي لحظة بانهيار أي تفاهمات سابقة”.
مأزق “نزع السلاح”
بدوره، بين مدير منتدى الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية والأمن القومي، والمحلل الفلسطيني، عبد المهدي مطاوع، أن “نجاح اتفاق غزة في المرحلة الثانية يحتاج إلى تفاهم على القضية الأهم وهي نزع سلاح حماس، فالموضوع معقد، ورغم أنه قد يحظى بموافقة من المكتب السياسي للحركة، لكنه على الأرض له تداعياته وحماس تدرك ذلك، وبالتالي سيكون ملف شائك وستستمر فيه المفاوضات لفترات طويلة”.
وأوضح مطاوع في حديثه لموقع “سكاي نيوز عربية”، أن “الأمر الوحيد الذي من الممكن أن ينجح فكرة نزع السلاح هو أن تحصل حماس على ضمانات أنها تكون في اليوم التالي للحرب، لكن بالتأكيد فالقضية هي حصان طروادة بالنسبة لإسرائيل ولحماس في ذات الوقت، وقد يجعل الاتفاق يقبع في مرحلته الأولى فقط، وهذا وضع مريح للطرفين دون تقديم تنازلات”.
ولفت إلى أن “نتنياهو لا يبدي أي استعداد لتقديم تنازلات أو مرونة في هذا التوقيت، خاصة مع اقتراب الانتخابات الإسرائيلية، كما أن حماس، من جانبها، لا تُظهر رغبة حقيقية في تقديم تنازلات أيضًا، إذ تعتبر أن بقاءها في السيطرة على الجزء غير الخاضع للوجود الإسرائيلي داخل القطاع انتصارًا سياسيًا ومعنويًا في حد ذاته، وهي رواية غريبة بحد ذاتها”.