وفي هذا السياق، طرح برنامج عماد الدين أديب على سكاي نيوز عربية قراءة معمقة لمستقبل المنطقة “ما بعد غزة”، بمشاركة كل من نبيل عمرو وزير الإعلام الفلسطيني السابق، وموفق حرب محلل الشؤون الأميركية في سكاي نيوز عربية، وهبة القدسي مديرة مكتب جريدة الشرق الأوسط في واشنطن، واللواء عبد اللطيف الحمدان الخبير العسكري والاستراتيجي.
الجميع اتفق على أن ما بعد غزة لن يشبه ما قبلها، وأن الشرق الأوسط يقف اليوم على أعتاب إعادة هندسة كبرى في موازين القوى والشرعيات والاصطفافات.
ويرى الوزير الفلسطيني الأسبق نبيل عمرو، في مداخلته بالتأكيد أن الحرب على غزة لم تعد مجرد مواجهة بين إسرائيل وحركة حماس، بل تحولت إلى اختبار شامل للنظامين الإقليمي والدولي.
وقال إن “إسرائيل لم تعد تقاتل حماس وحدها، بل تواجه مأزقا أخلاقيا وسياسيا أمام العالم”، مضيفا أن صور الدمار والضحايا المدنيين باتت “تنسف الرواية الإسرائيلية القديمة عن الدفاع عن النفس”.
يرى عمرو أن الحرب الأخيرة أعادت تعريف الصراع في فلسطين، إذ لم تعد القضية محصورة في الاحتلال، بل في شرعية القوة والردع، مؤكدا أن “المجتمع الدولي وجد نفسه أمام سؤال جديد: من يحمي المدنيين؟ ومن يضع حدا لمنظومة الإفلات من العقاب؟”.
ويشير إلى أن غزة كشفت هشاشة المنظومة الإسرائيلية داخليا أيضا، فالمجتمع الإسرائيلي “أصيب بانقسام عميق بين تيار يريد الحسم العسكري وتيار يخشى العزلة الدولية”، معتبرا أن هذا الانقسام سيشكل نقطة تحول في مستقبل السياسة الإسرائيلية، وربما في العلاقة بين المؤسستين العسكرية والسياسية.
نبيل عمرو رأى أن القيادة الفلسطينية أمام لحظة نادرة قد تعيد فيها تموضعها، مضيفا: “يجب على السلطة الفلسطينية أن تستعيد زمام المبادرة، لا أن تنتظر نتائج الميدان”.
وأكد أن مرحلة ما بعد غزة ستكون امتحانا لمدى قدرة الفلسطينيين على تقديم رؤية موحدة، “إما أن نكون طرفا فاعلا في إعادة الإعمار والترتيبات المقبلة، أو نقصى مجددا لصالح قوى إقليمية أخرى”.
وشدد على أن الانقسام الفلسطيني الداخلي أصبح عقبة كبرى أمام أي مشروع سياسي مستقبلي، مشيرا إلى أن “من دون مصالحة وطنية حقيقية ستظل غزة ورقة تفاوض بيد الآخرين، لا بيد أهلها”.
من جانبه، قدّم موفق حرب قراءة مغايرة ركزت على البعد الأميركي، معتبرا أن واشنطن تواجه “أصعب امتحان منذ نهاية الحرب الباردة”، إذ تجد نفسها عالقة بين التزاماتها التاريخية تجاه إسرائيل وضغوطها الأخلاقية والدبلوماسية أمام الرأي العام العالمي.
وأوضح حرب أن إدارة ترامب الثانية “تدرك أن استمرار الحرب بهذا الشكل يقوض صورتها كوسيط، ويضعف أدواتها في المنطقة”، لافتا إلى أن “الولايات المتحدة لم تعد تملك ترف إدارة الأزمات من بعيد، بل صارت جزءا منها”.
وأضاف أن مواقف البيت الأبيض الأخيرة تظهر رغبة في استعادة زمام المبادرة السياسية، عبر محاولة فرض معادلة ما بعد الحرب التي تجمع بين وقف إطلاق النار وترتيبات أمنية تضمن عدم عودة حماس إلى الحكم في غزة، وفي الوقت نفسه تفتح الباب أمام إعادة إعمار دولية بإشراف أميركي عربي مشترك.
وأكد حرب، أن الموقف الأميركي اليوم لا ينفصل عن الحسابات الانتخابية الداخلية أيضا، حيث تسعى الإدارة إلى تجنب خسارة دعم القواعد المعتدلة داخل الحزب الجمهوري والشارع الأميركي، الذي بات أكثر انقساما حول السياسة الخارجية في الشرق الأوسط.
أما هبة القدسي، فركزت على ما وصفته بـ”التحول الدبلوماسي الهادئ” في واشنطن، مشيرة إلى أن مؤسسات القرار الأميركي بدأت فعلا بمراجعة الأدوات التي استخدمتها في التعامل مع أزمات الشرق الأوسط خلال العقدين الماضيين.
وبحسب القدسي، فإن البيت الأبيض يرى في الأزمة الحالية فرصة لترميم صورته كقائد دولي بعد فترة من التراجع، مؤكدة أن التحرك الأميركي لإعادة ترتيب البيت الإقليمي ليس حبا في السلام، بل دفاعا عن مصالحه الاستراتيجية.
تضيف القدسي، أن ما يجري في المنطقة لا يمكن فصله عن تحركات عربية نشطة لإعادة التموضع، فهناك، كما تقول، “رغبة عربية متزايدة في تقليل الاعتماد على واشنطن دون القطيعة معها، عبر بناء شراكات متوازنة مع قوى أخرى مثل الصين وروسيا”.
أما اللواء عبد اللطيف الحمدان، فسلّط الضوء على البعد العسكري – الأمني للصراع، معتبرا أن ما جرى في غزة ليس مجرد حملة إسرائيلية محدودة، بل عملية إعادة صياغة كاملة لمفهوم الردع في المنطقة.
وقال إن الحرب أظهرت محدودية القوة الإسرائيلية في حسم النزاعات غير المتماثلة، مضيفا أن “كل ما حاولت تل أبيب أن تثبته عسكريا خسرته سياسيا”.
وأكد الحمدان أن الجيش الإسرائيلي دخل الحرب بأهداف استراتيجية كبرى، لكنه يخرج منها “بأسئلة أكثر من الإجابات”، وأن “المعادلة الإقليمية بعد غزة ستقوم على إدراك أن التفوق التكنولوجي لا يساوي النصر السياسي”.
يشير الحمدان إلى أن إسرائيل، بعد هذه الحرب، ستعيد النظر في عقيدتها الأمنية التقليدية القائمة على “الضربة الاستباقية والحسم السريع”، لأن الواقع الميداني أظهر استحالة تحقيق نصر نظيف في حروب المدن والأنفاق.
ويضيف أن “الجيش الإسرائيلي اكتشف أن تفوقه التكنولوجي لا يغني عن وجود استراتيجية خروج واقعية”، وأن هذه الهزة ستنعكس على ميزان الردع مع حزب الله وسوريا وربما إيران لاحقا.
كما توقع أن تشهد المنطقة سباق تسلح غير معلن، وأن بعض الدول العربية ستسعى لتطوير قدراتها الدفاعية الذاتية في مواجهة مشهد إقليمي أكثر اضطرابا.

