نشرت في
قبل أيام من الذكرى الأولى لاتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل في السابع والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر 2024، تبدو الساحة اللبنانية على أبواب مرحلة أشد حساسية مما كانت عليه خلال العام المنصرم. عام كامل مر، وإسرائيل لم تتوقف خلاله عن تنفيذ استهدافات مباشرة طالت عناصر من حزب الله ومدنيين في الجنوب والبقاع وصولا إلى الضاحية الجنوبية لبيروت، إلى جانب الخروقات الجوية والبرية التي استمرت بشكل شبه يومي، فيما حافظ حزب الله على قرار ثابت بعدم إطلاق النار.
ورغم أن لبنان الرسمي كرر على لسان مسؤوليه التزامه الكامل بالاتفاق، بقيت إسرائيل تتهم الحزب بخرقه من خلال إعادة ترميم قدراته. أما الكلفة البشرية، وفق مصادر وزارة الصحة اللبنانية لـ”يورونيوز”، فبلغت أكثر من 340 قتيلا و1300 جريحا خلال هذا العام.
اغتيال الطبطبائي ينذر بتصعيد أكبر
استهداف رئيس أركان حزب الله هيثم الطبطبائي داخل الضاحية الجنوبية لبيروت يوم الأحد شكل لحظة فاصلة. الضربة بدت شديدة الشبه شكلا بعملية اغتيال فؤاد شكر في 31 تموز/يوليو 2024، وهو القائد العسكري الذي كان يتولى الموقع نفسه.
والسؤال المطروح اليوم هو ما إذا كانت ضربة الطبطبائي ستكون شبيهة أيضا في المضمون، باعتبار أن اغتيال شكر كان أبرز عملية سبقت التصعيد الكبير والحرب التي اندلعت في أيلول/ سبتمبر 2024.
هذا التشابه أعاد طرح سؤال أساسي: هل يستطيع الحزب الاستمرار في تحمل ضربات من هذا النوع؟ خصوصا أن الأمين العام للحزب نعيم قاسم لوح في خطاب يوم 11 تشرين الثاني/نوفمبر بوضع حد للاعتداءات الإسرائيلية حين قال: “لا يمكن أن تستمر الاعتداءات الإسرائيلية، ولكل شيء حد.. التهديد لن يثنينا عن الدفاع عن أهلنا وأرضنا، ولن نتخلى عن سلاحنا”، في إشارة واضحة إلى أن سياسة الصبر ليست مفتوحة بلا سقف.
ومع ذلك، تؤكد مصادر مطلعة لـ”يورونيوز” أن الحزب لن يقدم على أي خطوة قبل زيارة البابا لاوون الرابع عشر إلى بيروت في 30 تشرين الثاني/نوفمبر، وهي زيارة تستمر يومين وتعد بالغة الحساسية سياسيا وروحيا.
عام من العض على الجرح… وهامش مناورة يضيق
على امتداد هذا العام، بدا حزب الله وكأنه يعيش فعلا سياسة العض على الجرح كما يصفها الكاتب والمحلل السياسي جوني منير في حديث لـ”يورونيوز”. لم ينزلق إلى حرب واسعة رغم الخسائر، ولم يرد رغم الهجمات، في محاولة لتمرير مرحلة اتسمت بتغيرات إقليمية كبرى وبضغوط متزايدة في الداخل.
من جهته، يؤكد الكاتب والمحلل السياسي محمد علوش أن ظروف الرد “غير متوفرة أو لم تكتمل عناصرها”، وأن الحزب يعتبر الكلفة التي يدفعها “منطقية ومقبولة مقابل عملية الترميم والتعافي التي يقوم بها”. لكنه يحذر في المقابل من أن الرد ليس مرتبطا فقط بالقدرة العسكرية بل بـ”التداعيات والنتائج”.
ومع تقلص العمق الاستراتيجي للساحة السورية، التي “تحولت من مؤيد للعمل المقاوم إلى نظام رافض ويمارس التضييف” كما يقول علوش، وجد الحزب نفسه “محصورا بعدو في الجنوب وخصم بأحسن الأحوال من جهة سوريا”. هذا الواقع يجعل هامش المناورة أكثر ضيقا.
رد مكلف… ومرحلة إقليمية لا تساعد
علوش يرى في حديثه لـ”يورونيوز” أن عدم التزام إسرائيل بالاتفاق مرتبط بـ”التغييرات الاستراتيجية” التي حدثت بعد الوصول إليه، وبأن تل أبيب تعتبر أن الاتفاق لا يحقق أهدافها في ظل سقوط النظام السوري. ويؤكد أن الحزب يلتزم الصمت لأن الرد “ليس محصورا بالقدرة العسكرية بل بالتداعيات والظروف الإقليمية” التي تفرض على الحزب حسابات دقيقة.
ويضيف أن الجيش اللبناني يعمل اليوم “بكل طاقته” لتطبيق القرار 1701، بينما تريد إسرائيل “أكثر من ذلك”، وصولا إلى تغيير عقيدته وتحويله إلى قوة صديقة تقوم بأعمال شرطة عسكرية في مواجهة حزب الله، وهو ما يعتبره علوش “غير ممكن”. كما يحذر من إدخال الجيش في صدام مع الأهالي والمقاومة عبر تفتيش المنازل، لأن ذلك يهدد وحدة المؤسسة العسكرية.
وبحسب علوش، فإن أي توسيع إسرائيلي للعمليات قد يصل إلى “خط أحمر وحد قد لا يستطيع الحزب بعده السكوت”، وتحديد هذا الحد مرتبط بطبيعة العمل العسكري الإسرائيلي وبالظروف الإقليمية المرافقة له.
هدنة بين حربين وتغيير قواعد اللعبة
منيّر يقدم قراءة موازية، فيعتبر الاتفاق الذي تم التوصل إليه في 27 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي “هدنة بين حربين”، ويشير إلى أن المرحلة المقبلة قد تشهد “حربا من نوع آخر” أو “عمليات جراحية” بحسب التوصيف الإسرائيلي تهدف إلى تعديل الواقع الميداني.
ويؤكد أن واشنطن وتل أبيب تعتبران أن الحزب يخرق الاتفاق لأنه “لم يسلم سلاحه”، مشيرا إلى أن الحزب يتجنب الرد لأن “ظروفه الحالية لا تسمح له”. لكنه يحذر من أن إسرائيل باتت تسعى إلى منطقة “منزوعة السلاح” إلى جنوب نهر الأولي، وأن أي ضربة على مواقع الصواريخ في البقاع تستدعي “إنزالات” جوية، وإذا وصلنا إلى هذه المرحلة عندها لن يستطيع الحزب مواصلة ضبط النفس كما اليوم.
ويضيف: “توقيت التصعيد لا أحد يعرفه سوى بنيامين نتنياهو”، مشيرا إلى أن الأميركيين تحدثوا عن مهلة تنتهي “آخر السنة”.
منيّر يشدد أيضا على أن “الصدام الداخلي خط أحمر”، وأن الرئيس جوزاف عون يحاول الحفاظ على الاستقرار دون الانجرار إلى خطوات قد تفجر الوضع الداخلي.
هل يستطيع الحزب الصبر أكثر؟
ضربة الطبطبائي في بيروت وضعت الحزب أمام سؤال عميق: هل يمكن الاستمرار في نهج الصبر الاستراتيجي؟ الإجابة وفق علوش ومنير ليست بسيطة. فالصمت في الظرف الحالي “له حدود”، والوصول إلى مستوى معين من الضربات يجعل الحزب “معرضا ولا يملك خيارا آخر” سوى المواجهة كما يقول منير.
أما علوش، فيرى أن هناك “أفعالا لا يستطيع الحزب السكوت بعدها”. وهكذا، تحول الاغتيال داخل بيروت إلى إشارة بأن قواعد الاشتباك القديمة تقترب من التغير، وأن سياسة التحمل لم تعد خطا ثابتا.
هل ينتظر الحزب التصعيد ليواجه… أم تبادر قيادته؟
في لحظة يتزايد فيها الحديث عن ضوء أخضر أميركي لإسرائيل، ومع رغبة تل أبيب في تعديل قواعد الاشتباك جنوبا، يطرح سؤال مركزي نفسه: هل ينتظر الحزب التصعيد ليواجه، أم يبادر قبل أن يفرض عليه؟
بحسب علوش ومنير، الحزب لا يريد الحرب ولا يسعى إليها، لكنه يعتبرها حربا وجودية إذا فرضت عليه. ومع أن ظروفه الحالية لا تسمح له بالمبادرة الهجومية، إلا أن استمرار الاغتيالات قد يفتح نقاشا داخل قيادة الحزب حول ضرورة الرد والسعي لإيقاف مسار الاستنزاف المستمر منذ عام.
تدخل البلاد مرحلة ما بعد زيارة البابا وسط مزيج من التوتر والترقب. فالحزب يقف أمام معادلة دقيقة: الرد قد يشعل حربا واسعة، وعدم الرد قد يشجع إسرائيل على استمرار الاغتيالات وضرب العمق. أما إسرائيل، فتبدو متجهة نحو توسيع عملياتها تدريجيا. ومع هذا المشهد، يصبح السيناريو الأكثر ترجيحا أن أي تصعيد إسرائيلي كبير سيجبر الحزب مكرهًا على الانخراط في المواجهة.

