أعادت حادثة مقتل نائل إلى أذهان الفرنسيين حادثة وفاة سيدريك شوفيات، عامل توصيل الطلبات الذي توفي في 5 يناير/كانون الثاني بسبب سكتة قلبية تعرض لها بعد يومين من إيقافه من قبل الشرطة في باريس في عام 2020.
كادت حادثة قتل فتى في ال17 برصاص شرطي أن تمر كغيرها من مئات بل آلاف الحوادث التي تحصل يوميا في العالم على أيدي رجال الشرطة وتُسجَّل تحت خانة تطبيق القانون والدفاع عن الأمن، لولا مشهد مصور خرج إلى العلن ليفتح الأبواب أمام تساؤلات عدة ويدحض رواية الشرطة الفرنسية ويشعل فتيل الغضب في العديد من المدن.
ونادرا ما كان يظهر ما يدحض رواية عناصر الأمن بعد تنفيذ عناصرها عملية هنا أو مداهمة هناك، إلا أن اليوم وفي ظل التنافس بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي على نشر “الصور الحصرية” وتوثيق كل ما يخطر ببالك، وما لا يخطر أيضا، فقد تضطر إلى وصف الأمور كما جرت فعلا، دون زيادة أو نقصان تحسبا من خروج مقطع فيديو يكذب جميع أقوالك ويوثق ما حدث، تماما كما حدث في قصة الشاب نائل مرزوقي في نانتير.
في تفاصيل ما حدث
“الفيديو لا يحتاج إلى الشرح”
أعلنت الشرطة الفرنسية صبيحة يوم الثلاثاء الموافق 27 يونيو/حزيران، في بيان نشرته على برنامج “بيغاز” Pégase الداخلي إطلاق أحد عناصرها النار على شاب رفض الامتثال لنقطة تفتيش مرورية وحاول تجاوزها فأردته قتيلا، وراء حيّ لا ديفانس قرب باريس.
وسرعان ما حملت مصادر في الشرطة الشاب المسؤولية مشيرة إلى أنه كان يقود باتجاه شرطيين على دراجتين ناريتين لمحاولة دهسهما.
إلا أن مشهدا مصورا خرج عند تمام الساعة 10:26 من صباح اليوم نفسه على موقع تويتر من قبل فرنسية تحمل إسم “أوهانا”، ليدحض رواية الشرطة وأدى لاندلاع مواجهات وصدامات ليلتها في ضواحي باريس دعت السلطات على اثرها إلى “الهدوء”.
وظهر في الفيديو الذي انتشر كالنار في الهشيم وحقق آلاف المشاركات، رجلا شرطة يقفان إلى جانب سيارة صفراء من طراز “مرسيدس AMG” إلى جانب الطريق ويتحدثان إلى السائق.
وبعد أن رفض الشاب الامتثال والوقوف عند نقطة تفتيش مرورية وحاول الفرار من الشرطة، أطلق شرطي النار عليه من مسافة قريبة من الجانب الأيسر عندما حاول الانطلاق بها.
ومن ثم نرى أن السيارة تتحرك لأمتار قليلة قبل أن تصطدم بجدار جانبي.
وانتشر في ما بعد خبر وفاة الشاب الجزائري الأصل برصاصة تلقاها في صدره بعد أن فشلت محاولات المسعفين في إنعاشه.
“سأزرع رصاصة هذا المسدس في رأسك”
وفي مشهد مصور آخر، يظهر أحد الشرطيين وهو يخاطب السائق قائلا “سأزرع رصاصة هذا المسدس في رأسك إن لم تمتثل لأمر النزول”.
وقالت أوهانا، ناشرة الفيديو إنها قررت تحميله على صفحتها على تويتر بعد التعليقات التي بدأت تخرج إلى العلن وعقب صدور رواية الشرطة التي حملت الشاب المسؤولية.
الفيديو الذي يوثق حادثة القتل، جاء بمثابة صفعة للشرطة الفرنسية وشكل ضغطا على المؤسسة الأمنية التي اضطرت إلى فتح تحقيق مع الضابط (38 عامًا) المتهم بإطلاق النار على الفتى نائل.
وقال المدعي العام في نانتير باسكال براش، إن “النيابة تعتبر أن الشروط القانونية لاستخدام السلاح لم تتحقق”. وطلب احتجاز الشرطي، وهو خيار نادر في هذا النوع من القضايا.
وفي وقت لاحق، أعلنت النيابة الخميس في بيان لها أن “الشرطي المشار إليه اليوم في إطار تحقيق قضائي حول جريمة قتل متعمدة وُجّهت إليه تهمة القتل العمد ووضع قيد التوقيف الاحتياطي”.
ووصف ماكرون مقتل الشاب بأنه “لا يمكن تفسيره.. وغير مبرّر”.
وبدوره قال وزير الداخلية جيرالد دارمانين إن هذه الصور (الفيديو) التي شوهدت أكثر من 2.5 مليون مرة “مروعة للغاية”.
وعادت هذه القضية لتثير الجدل حول إجراءات إنفاذ القانون في فرنسا، خصوصًا بعد تسجيل 13 حالة وفاة في العام 2022 وهو رقم قياسي بعدما رفض أشخاص الامتثال أثناء عمليات تفتيش مرورية.
أزمة “السترات الصفراء” نقطة تحول
أعادت حادثة مقتل نائل إلى أذهان الفرنسيين حادثة وفاة سيدريك شوفيات، عامل توصيل الطلبات الذي توفي في 5 يناير/كانون الثاني بسبب سكتة قلبية تعرض لها بعد يومين من إيقافه من قبل الشرطة في باريس في عام 2020.
وأثارت حينها مشاهد مصورة نشرها محامو شوفيات غضبا واسعا، بعد أن سُمع فيها وهو يردد سبع مرّات خلال 22 ثانية “أنا أختنق” أثناء تثبيته أرضاً من قبل أفراد الشرطة.
وصرح رجال الشرطة حينها، بأنهم أوقفوا سيدريك لأنه كان يتابع الهاتف المحمول أثناء قيادة دراجته واتساخ لوحة التسجيل. ليصدر في ما بعد تقرير الطب الشرعي، ويشير إلى أن الاختناق وكسر الحنجرة تسببا في وفاته.
وبعد التحقيق اتهمت النيابة الفرنسيّة 3 من ضبّاط الشرطة بـ “القتل الخطأ”، ولم يتم إيقاف أي من عناصرها عن العمل على خلفية تلك القضية.
وبحسب أندري غونثرت الباحث في التاريخ الثقافي والدراسات البصرية، فإن مظاهرات “السترات الصفراء” التي خرجت في عام 2019 كانت بمثابة الدافع الذي حث الناس على توثيق العنف الذي يمارسه رجال الشرطة تجاه المتظاهرين.
ويشير إلى أن مقاطع الفيديو اليوم “تغير اللعبة وتشكل نقطة تحول لشرعية ومسؤولية ضباط إنفاذ القانون”.
وبسبب فيديو نانتير، لم يكن أمام وزير الداخلية إلا خيار واحد وهو إدانة ما حدث.
وفي آخر التطورات، أعلنت رئيسة الوزراء الفرنسية إليزابيت بورن الجمعة أن السلطة التنفيذية تدرس “كل الاحتمالات” لإعادة النظام في فرنسا من بينها فرض حال الطوارئ بعدما تواصلت أعمال الشغب لليلة الثالثة على التوالي في أرجاء البلاد.
من شأن فرض الطوارئ أن يعطي السلطات صلاحيات إضافية للإعلان عن تدابير حظر تجول محددة وحظر التظاهرات وإعطاء الشرطة حرية أكبر في ضبط الأشخاص الذين يشتبه بأنهم مثيرو شغب وتفتيش المنازل.
وفي العام 2005، أثارت وفاة مراهقَين صعقًا بالكهرباء في سين-سان-دوني شمال باريس خلال ملاحقة الشرطة لهما، أعمال شغب استمرت ثلاثة أسابيع ودفعت الحكومة إلى إعلان حالة الطوارئ.
ويبقى السؤال الأخير، كم من شخص لم يجد من يوثّق روايته فسُجن أو قُتل بناء على رواية معاكسة تماما لما حدث فعلا؟