نابلس- “رصاصتان في الرأس بينهما 20 عاما والقاتل واحد” بهذا الوصف اختصر الصحفي الفلسطيني عبد الرحيم القوصيني حديثا مطولا وحكاية عمرها 20 عاما عندما اغتالت إسرائيل الصحفي نزيه دروزة مصور وكالة “آي بي” الأميركية، وعاد الاحتلال ليكرر جريمته ثانية ويعدم الزميلة شيرين أبو عاقلة قبل عام.
إلى السادسة والنصف صباحا من 19 أبريل/نيسان 2003، أعادنا القوصيني بعد أن اصطحبنا إلى منطقة “درج المنشية” حيث استشهد زميله دروزة.
وروى القوصيني -وهو مصور رويترز سابقا- للجزيرة نت تفاصيل الجريمة الإسرائيلية بقوله “كنا 4 صحفيين، نقتنص الصور ومقاطع الفيديو ونعود للاختباء داخل أحد المنازل، وكنت ملاصقا للزميل دروزة، وفجأة أصيب طفل برصاص الاحتلال وسقط أرضا، فاستدار دروزة بكاميراته صوب الطفل ليصوره، فإذا به يسقط مثله ويتناثر دمه ودماغه أرضا، ورحت أصرخ نزيه استشهد، استشهد”.
وثق مقتله بكاميراته
ويضيف القوصيني (55 عاما) أن تلك الرصاصة خرجت من بندقية جندي إسرائيلي، ترجَّل من آليته العسكرية وتمترس خلف زاوية البناية المقابلة وأطلقها نحوهم بشكل متعمد، وهو ما أظهرته كاميرا دروزة نفسه وزملاء آخرون، والتي التقطت المشهد الأخير لجريمة الاحتلال.
حينها أطلق جيش الاحتلال -كان ينسحب من البلدة القديمة بنابلس- الرصاص بكثافة تجاه عشرات الشبان المتظاهرين “لكنه أطلق رصاصة واحدة فقط تجاه الصحفيين، وكأنه أراد إنهاء عمليته والانسحاب من المدينة بقتل أحدنا” يتابع القوصيني.
ورغم قتلهم الصحفي دروزة، واصل جنود الاحتلال إطلاق النار بكثافة تجاه المواطنين، وهو ما جعل القوصيني ورفاقه يتسمرون في مواقعهم لأكثر من نصف ساعة، بينما راح المسعفون يجمعون أشلاء دماغ دروزة بقطع من القماش.
وطوال مسيرته المهنية في حقل الصحافة، تعرض القوصيني لعشرات الاعتداءات والمضايقات والاحتجاز من جيش الاحتلال، وكان أخطرها إصابته برصاص الاحتلال بشكل مباشر مرتين.
يقول القوصيني إن الصحفي أضحى هدفا للاحتلال، فهو لا يريد كشف جرائمه وإعاقة طريقه، سواء الصحفيين أو الأطقم الطبية، خاصة وأن الجنود اليوم باتوا يتصرفون بعنجهية ويدركون أن لا حسيب ولا رقيب عليهم.
وقتلت إسرائيل -وفق إحصاءات رسمية- 55 صحفيا فلسطينيا منذ عام 2000، وتعتقل في سجونها 15 صحفيا، بينهم المقدسي محمود عيسى والمعتقل منذ عام 1993، ورغم كل الإجراءات الوقائية التي يتخذها الصحفيون لحماية أنفسهم خلال المواجهات، إلا أن جنود الاحتلال يتعمدون استهدافهم.
شاهد عيان
وتشبه ظروف اغتيال دروزة إلى حد كبير اغتيال مراسلة قناة الجزيرة الزميلة شيرين، فهي تمت صباحا وبين زملائها الصحفيين وبرصاص مباشر وقاتل من الاحتلال، حيث اخترق رأسها من الخلف وهشم جانب وجهها الأيمن تماما كالشهيد دروزة.
وفي الحالتين (نزيه وشيرين) لم يشكل الصحفيون خطرا على جنود الاحتلال الذين تمترسوا داخل آلياتهم العسكرية كقوة إسناد للقوات داخل مخيم جنين والبلدة القديمة بنابلس.
وهو ما يؤكده الصحفي علي سمودي (53 عاما) والذي استهدفه جيش الاحتلال الإسرائيلي لحظة اغتيال الزميلة شيرين برصاصة كادت تقتله.
يقول السمودي للجزيرة نت إنه اختار وزملائه الصحفيون -ومنهم شيرين- الموقع بعناية بعد التأكد من خلوه تماما من أية مواجهات أو مقاومين، وكانوا مكشوفين عيانا لجنود الاحتلال وهم بكامل زيهم الصحفي.
كما أنهم ساروا كفريق، وحافظوا على مسافة بينهم وبين الجنود ومنطقة الحدث، والأهم أن تلك القوة من الجنود كانت مساندة للقوات الأخرى التي تعمل داخل المخيم، بمعنى أنه لم يتعرضوا لأي خطر مباشر، وكانوا داخل آلياتهم العسكرية يرقبون المشهد كاملا ويرصدون تحركات الصحفيين.
نية مبيتة للقتل
اقتادنا السمودي إلى موقع اغتيال شيرين واستعرض تفاصيل الجريمة، وكيف أن الجنود استهدفوهم مباشرة بالرصاص، مضيفا “اخترقت رصاصة أعلى كتفي، ولو لم استدر لاغتالوني في قلبي، وواصلوا، فقتلوا شيرين، وأرادوا قتل شذا حنايشة التي احتمت بالشجرة”.
يقول أيضا إن إطلاق النار لم يكن مبررا أصلا، وأن ما جرى “قتل متعمد بنية مبيتة” ولا سيما وأنهم معروفون جيدا للجنود، ولذلك نلحظ تدرجا وكذبا في الرواية الإسرائيلية، ويضيف “أتحدى الاحتلال أن ينشر الفيديو الذي وثقه كعادته لحظة استهدافنا”.
وأصيب السمودي -الذي يعمل بالصحافة منذ 35 عاما- 8 مرات برصاص الاحتلال واعتداءاته، وتعرض بعد اغتيال شيرين لمضايقات مباشرة من جنود الاحتلال ومخابراته، عبر الطرد من مواقع التغطية والتهديد بالاتصال المباشر.
وتحت هذه الضغوطات لم يتراجع السمودي عن تغطيته الميدانية وفضح الاحتلال، ومواصلة مشوار شيرين، وازداد قناعة بأن جنود الاحتلال “يمارسون القتل باحتراف” ويواصلون ارتكاب المجازر والقتل كل يوم أكثر.
ويتفق السمودي مع زميله القوصيني بأن الصحفي أصبح هدفا مباشرا للاحتلال وأنه يسعى أحيانا كثيرا لتصفيته، وهو ما دفعه لرفع صوته عاليا وتقديم شهاداته على جريمة اغتيال شيرين، والتي كان آخرها بأروقة الأمم المتحدة في جنيف.
مماطلة مستمرة
بعد 20 عاما من اغتيال دروزة، ظلت التحقيقات تراوح مكانها في الاستماع لروايات الشهود والإدانات الدولية، دون أن يقدم الجناة من الجنود للمحاكمة أو توجه لهم اتهامات مباشرة بالرغم من أنهم معروفون، وهو ما تشهده قضية شيرين اليوم من مماطلة وتنكر إسرائيلي وصمت دولي في محاسبة المحتل وعقابه.
بيد أن الصحفي القوصيني عرف النتيجة سلفا، فهو وبحكم متابعته لكثير من الحالات القانونية والحقوقية مع الاحتلال، كان جواب المحتل واضحا حين أخبره الإسرائيليون مرة بالقول “هذه ساحة حرب، وأنت رضيت لنفسك أن تكون بهذه الساحة، وجيشنا يقوم بدوره”.