كتب – أحمد زكي : تُعد الآثار المصرية سجلًّا خالدًا للحضارة الإنسانية، وشاهدًا على عبقرية المصري القديم في مجالات العمارة والفن والهندسة. إلا أن هذه الكنوز التي صمدت آلاف السنين تواجه اليوم تحديًا غير مسبوق يتمثل في التغيرات المناخية، التي بدأت تترك بصمتها على المعابد والمقابر والتماثيل والمواقع الأثرية في شتى أنحاء البلاد.
فمع ارتفاع درجات الحرارة، وتزايد معدلات الرطوبة، وتفاقم ظواهر السيول والعواصف الرملية، بدأت ملامح التدهور تطال أحجار المعابد ونقوش المقابر. ووفقًا لتقارير منظمة اليونسكو ووزارة البيئة المصرية، فإن التراث الثقافي في مصر من أكثر أنواع التراث المهددة في منطقة الشرق الأوسط بفعل آثار المناخ المتغير.
هذا التقرير يرصد بالأدلة والتحليل الأكاديمي أبرز المشكلات المناخية التي تواجه الآثار المصرية، وجهود الدولة في التصدي لها، مع عرض لتوصيات الخبراء لحماية ذاكرة التاريخ الإنساني من الاندثار
مظاهر تأثر الآثار المصرية بالتغير المناخي.
تشير البيانات الصادرة عن المجلس الأعلى للآثار إلى أن العديد من المواقع الأثرية في الأقصر، وأسوان، والإسكندرية، وسيناء قد بدأت تظهر عليها آثار التدهور البيئي الناتج عن المناخ.
ففي الأقصر، تتعرض معابد الكرنك والأقصر لهجمات الرطوبة وملوحة المياه الجوفية، ما يؤدي إلى تفكك النقوش الحجرية وتغير ألوانها.
وفي الإسكندرية، تهدد ارتفاعات مستوى سطح البحر أجزاءً من الشواطئ والمواقع الأثرية الساحلية، لا سيما في منطقتي أبو قير والأنفوشي، حيث تقع بقايا آثار غارقة من العصر البطلمي.
أما في الدلتا، فإن زيادة منسوب المياه الجوفية تسببت في إضعاف الطبقات الطينية الحاملة للأساسات الأثرية، مثل موقع تل الضبعة وتل بسطة.
وتشير تقرير اليونسكو لعام 2023 بعنوان “Climate Change and World Heritage” إلى أن ما يقرب من 30% من المواقع الأثرية المسجلة عالميًا في مصر معرضة لتأثيرات مباشرة من تغير المناخ خلال العقود الثلاثة القادمة.
الأسباب العلمية وراء تدهور الآثار.
وفقًا لدراسة أعدها المعهد القومي لعلوم البحار والمصايد بالتعاون مع وزارة البيئة المصرية (2022)، فإن التغيرات المناخية أدت إلى
1. ارتفاع متوسط درجات الحرارة السنوي بمعدل 1.5 درجة مئوية خلال الثلاثين عامًا الأخيرة.
2. زيادة معدلات الرطوبة النسبية والتكاثف الليلي، مما يسبب تمددًا وانكماشًا متكررًا في الأحجار الجيرية المستخدمة في أغلب المعابد المصرية القديمة.
3. زيادة شدة العواصف الرملية، والتي تؤدي إلى تآكل السطح الخارجي للنقوش والتماثيل.
4. تفاقم السيول المفاجئة في صعيد مصر، والتي غمرت بعض المقابر مثل مقابر “دير المدينة” بالأقصر عام 2021، مسببة أضرارًا مباشرة في الجدران المزخرفة.
وأكدت اليونسكو في تقريرها المشترك مع المنظمة العالمية للأرصاد الجوية (WMO) أن هذه الظواهر المناخية المتطرفة تؤدي إلى تسارع معدلات التدهور الطبيعي للمواد الأثرية بمعدل يزيد بنسبة 25% عن المتوسط العالمي.
جهود الدولة المصرية في مواجهة التغيرات المناخية
أدركت الدولة المصرية مبكرًا خطورة الوضع، وأدرجت ملف حماية التراث الثقافي ضمن الاستراتيجية الوطنية لتغير المناخ 2050 التي أطلقتها وزارة البيئة المصرية عام 2022.
ومن أبرز الإجراءات والإنجازات في هذا الإطار:
تنفيذ مشروعات صرف المياه الجوفية في الكرنك والأقصر بتمويل من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) بقيمة تتجاوز 50 مليون دولار.
التعاون مع اليونسكو في مشروع “التراث في خطر” (Heritage in Peril) الذي يشمل مراقبة بيئية دقيقة للمناطق الأثرية الأكثر عرضة للتغير المناخي.
تطوير برامج التوعية المجتمعية والسياحة المستدامة لتقليل الأثر البشري على المواقع الأثرية، ضمن مبادرة “اتحضر للأخضر” التي أطلقتها وزارة البيئة.
إدخال أنظمة استشعار رقمية في عدد من المواقع مثل معبد حتشبسوت بالأقصر، لرصد التغيرات الدقيقة في درجات الحرارة والرطوبة وتحديث البيانات بشكل دوري
التحديات المستقبلية.
على الرغم من الجهود الكبيرة، لا تزال هناك عقبات كبيرة تواجه منظومة حماية التراث المصري، من أبرزها.
1. ضعف التمويل الدولي الموجه لمشروعات صون التراث المتضرر من المناخ.
2. نقص الكوادر البحثية المتخصصة في علم الآثار البيئية والميكروكيمياء الحجرية.
3. تشتت البيانات المناخية الأثرية بين أكثر من جهة، مما يحد من دقة التنبؤات المستقبلية.
4. الافتقار إلى خطة وطنية متكاملة لإدارة التراث في ظل التغير المناخي تربط بين وزارات السياحة والآثار، البيئة، والتعليم العالي، والموارد المائية.
وتوصي اليونسكو في تقريرها الأخير بضرورة إنشاء مركز إقليمي لدراسة تأثير التغير المناخي على التراث الثقافي في شمال إفريقيا تكون مصر مركزه الرئيس، نظرًا لريادتها التاريخية في مجال الحفاظ على الآثار.
الآثار المصرية ذاكرة أنسانية وجذر للهوية .
إن الآثار المصرية ليست مجرد حجارة أو نقوش صامتة، بل هي ذاكرة الإنسانية وجذر الهوية الوطنية، وهي اليوم تواجه اختبارًا حقيقيًا أمام تغيرات بيئية قاسية تهدد وجودها.
ولذلك، فإن حماية هذه الكنوز تتطلب تعاونًا دوليًا ومجتمعيًا واسعًا، واستثمارًا في التكنولوجيا الخضراء، وتكاملًا بين العلم والإدارة.
ومع التزام الدولة المصرية بسياسات المناخ المستدامة، وإصرار علمائها ومهندسيها على صون هذا الإرث الخالد، تبقى مصر — كما كانت دائمًا — قادرة على حماية تاريخها، وإلهام العالم بمعركتها في سبيل بقاء الحضارة رغم تقلبات المناخ.
إقرأ أيضاً :