كتب – أحمد زكي : في قلب الخليج العربي، حيث تتقاطع الجغرافيا السياسية مع رؤى المستقبل، تُعيد الإمارات العربية المتحدة صياغة أدوات التأثير الإقليمي والدولي من خلال مقاربة جديدة للثقافة والترفيه. لم تعد المشاريع الترفيهية الكبرى مجرد مظاهر للحداثة العمرانية، بل تحوّلت إلى منصات دبلوماسية ناعمة تعيد تعريف الحضور الدولي للدول. ويأتي الإعلان عن إنشاء أول مدينة ديزني لاند في الشرق الأوسط، في أبوظبي، كتحوّل نوعي في استخدام السياحة الثقافية كرافعة سياسية واقتصادية، تعكس توجه الدولة لبناء سردية جديدة قائمة على الجذب والرمزية، وليس فقط على الموارد التقليدية.
أبوظبي والخيال الإستراتيجي من الترفيه إلى التأثير الدولي
في خطوة غير مسبوقة في تاريخ الترفيه العالمي، أعلنت شركة “والت ديزني” عن إقامة أول مدينة ترفيهية من نوعها في الشرق الأوسط داخل العاصمة الإماراتية أبوظبي، لتكون أحدث حلقة في سلسلة مشاريع القوة الناعمة التي تقودها الإمارات. يتجاوز هذا المشروع كونه وجهة ترفيهية، ليُمثل استراتيجية متكاملة تهدف إلى إعادة تعريف دور الدولة الخليجية في المشهدين الثقافي والدبلوماسي الدوليين.
فبالتعاون مع شركة “ميرال” الإماراتية، سيقام المنتجع الضخم على جزيرة ياس، التي باتت تشكّل أيقونة جديدة للسياحة الثقافية والتجريبية في الخليج العربي. هذا المنتزه، الذي يُعدّ الأول من نوعه منذ أكثر من 15 عامًا ضمن سلسلة منتجعات ديزني العالمية، يتسم بتقدم تكنولوجي فائق وبُعد جغرافي يجعله في متناول ثلث سكان العالم خلال أربع ساعات طيران، مما يمنحه ثِقلاً جيوثقافيًا فريدًا.
السياحة كأداة سيادية ديزني في قلب القوة الناعمة الإماراتية.
تُدرك الإمارات أن مفاتيح التأثير في القرن الحادي والعشرين لم تعد تقاس بعدد القوات أو وفرة الموارد، بل في القدرة على إنتاج المعنى وصياغة الرموز. ومن هنا، يمثل مشروع ديزني لاند أبوظبي تعبيرًا عن تحول نوعي في مفهوم “الترفيه السيادي”، حيث يُوظف الخيال لأداء وظائف جيوسياسية واضحة.
فالرئيس التنفيذي لشركة ديزني، روبرت أ. إيجر، أشار إلى أن المنتزه الجديد سيحمل “طابعًا إماراتيًا مميزًا”، ما يعكس توجّه الإمارات لإضفاء خصوصية ثقافية محلية على رموز ثقافية غربية عالمية، دون المساس بجوهرها الترفيهي.
مقاربة إماراتية جديدة للنفوذ الثقافة ليست ترفًا بل إستراتيجية.
منذ عام 2017، دشّنت الإمارات إستراتيجية وطنية للقوة الناعمة تُدمج بين الاقتصاد، والتعليم، والمساعدات الإنسانية، والتسامح، والثقافة، في إطار سردية وطنية موحدة. وكان الشيخ منصور بن زايد آل نهيان قد صرّح أن “هدف هذه الإستراتيجية هو ترسيخ مكانة الإمارات في العالم وفي قلوب الناس”، وهو ما يتجلّى اليوم في سياسات الدولة المتقدمة نحو استقطاب مشاريع رمزية كبرى.
ولا تنظر الإمارات إلى البنية التحتية الثقافية كعامل جذب سياحي فقط، بل كمكوّن محوري لهويتها السيادية الجديدة، القادرة على إثبات التوازن بين الانفتاح على العالم والحفاظ على الخصوصية الحضارية.
إعادة تشكيل المشهد السياحي والثقافي الخليجي.
تأتي ديزني لاند أبوظبي كإضافة نوعية إلى منظومة ثقافية وسياحية مزدهرة، تشمل مشاريع كبرى مثل “متحف اللوفر أبوظبي” (2017)، الذي يُعدّ أول امتداد عالمي للمتحف الفرنسي الشهير، ومتحف “جوجنهايم أبوظبي” الجاري إنشاؤه، والمقرر أن يصبح أكبر متحف من نوعه في المنطقة.
هذا التراكم في المشاريع الثقافية الكبرى يشير إلى نهج إماراتي متكامل يجعل من أبوظبي “مختبرًا استراتيجيًا” لنموذج جديد من النفوذ يقوم على تحويل الثقافة من منتَج نخبوي إلى أداة جماهيرية تؤدي وظائف متعددة: تعليمية، اقتصادية، وسياسية.
الخيال بوصفه أداة للسيادة.
بعيدًا عن الصورة النمطية للترفيه، يتموضع مشروع ديزني لاند أبوظبي كمنصة رمزية تحمل رسائل سيادية، تؤكد أن الخليج لم يعد فقط مستهلكًا للثقافة العالمية، بل بات شريكًا في إنتاجها وإعادة توجيهها. ففي سياق التحولات الإقليمية والدولية، تُستخدم علامات تجارية مثل ديزني كوسائط ثقافية حاملة للرسائل، تعيد من خلالها الإمارات تموضعها على خارطة التحالفات الدولية كدولة حداثية منفتحة على التعدد الثقافي دون التخلي عن هويتها.
استثمار في المستقبل من النفط إلى الإبداع.
على غرار التحولات الجارية في السعودية وقطر، تسعى الإمارات إلى تنويع مصادر دخلها من خلال القطاعات الإبداعية والخدمية. ويمثل قطاعا السياحة والترفيه ركيزتين أساسيتين في هذا التحول، إذ يسهمان في خلق وظائف، وزيادة تدفق رؤوس الأموال، وتعزيز البنية التحتية للمدن.
ومن هذا المنظور، تمثل ديزني لاند أبوظبي تجسيدًا حيًا للرؤية الإماراتية التي ترى في الاقتصاد الثقافي أداة مستدامة للريادة العالمية.
نحو سردية وطنية جديدة: عندما يصبح الترفيه جسرًا للدبلوماسية
في خضم التغيرات العالمية المتسارعة، تشكل ديزني لاند أبوظبي واجهة جديدة لرؤية الدولة، حيث يصبح الخيال جسرًا للدبلوماسية، وتتحول الرموز الترفيهية إلى أدوات لإعادة صياغة النفوذ. المشروع ليس فقط إعلانًا عن شراكة ثقافية مع الولايات المتحدة، بل هو أيضًا دعوة لإعادة التفكير في دور الثقافة في العلاقات الدولية، في عالم تُقاس فيه النفوذ بالصور والقصص بقدر ما يُقاس بالمواقف والتحالفات.
إن مشروع ديزني لاند أبوظبي لا يختزل فقط شراكة اقتصادية أو توسعًا في قطاع السياحة، بل يشكل رمزًا لتحول استراتيجي أعمق، تُعيد من خلاله الإمارات تعريف علاقاتها بالعالم، وتؤسس لهوية وطنية هجينة تجمع بين الحداثة والانتماء الثقافي. وفي ظل هذه المقاربة المتكاملة، تصبح السياحة الثقافية أداة دبلوماسية فاعلة، تُترجم الخيال إلى قوة ناعمة، وتُحوّل الوجهات السياحية إلى نقاط ارتكاز في خرائط النفوذ العالمي.