كتب – أحمد زكي : مع اقتراب عيد الأضحى المبارك، تتصدر “فتة اللحم الضاني” قوائم الطعام في البيوت المصرية، باعتبارها من أبرز الأطباق المرتبطة بهذا الموسم الديني والاجتماعي. هذا الطبق التقليدي، الذي يجمع بين الأرز والخبز المحمص والصلصة الحمراء وقطع اللحم الضاني، لا يمثل مجرد وجبة شهية فحسب، بل يعكس جذورًا ثقافية ممتدة في الذاكرة الشعبية المصرية، حيث ارتبط بمراسم الأضحية وطقوس الكرم والاحتفاء. ويأتي احتفاء المصريين بهذه الوجبة كتعبير عن التواصل مع التراث والهوية، في وقت تتزايد فيه الدعوات للحفاظ على المأكولات التراثية في ظل العولمة وتغير أنماط التغذية.
طبق العيد الأول في مصر
تُعد فتة اللحم الضاني طبقًا رئيسيًا على موائد عيد الأضحى، وتحديدًا في يوم النحر، حيث تُطهى اللحوم الطازجة من الأضاحي وتُقدم بطريقة تقليدية تُعلي من قيمة اللحم وتُبرز نكهته. ويعود ارتباط “الفتة” بعيد الأضحى إلى البعد الديني الذي يحتفي بذبح الأضاحي تقربًا لله، إذ تتحول اللحوم إلى رمز للعطاء والبركة وتبادل الود بين الأسر والجيران.
وتُحضّر الفتة من مكونات بسيطة لكنها تحمل دلالات غنية: الأرز الأبيض بالسمن البلدي، والخبز المحمص أو المحمّر في الزبدة، والصلصة المكونة من الثوم والخل والطماطم، تُغمر بها طبقات الخبز والأرز، وتُرصّ فوقها قطع اللحم الضاني المسلوقة في مرق غني بالتوابل. هذا الدمج بين النكهات والقوامات يجعل من الفتة وجبة ممتعة تمزج بين الأصالة والبساطة.
البعد الثقافي والاجتماعي للفتة.
ليست الفتة مجرد طبق لذيذ فحسب، بل هي طقس اجتماعي يوحّد أفراد العائلة حول مائدة واحدة. في المجتمعات الريفية والصعيدية على وجه الخصوص، تُحضّر الفتة في كميات كبيرة تكفي لتجمعات عائلية تمتد لساعات، وغالبًا ما تُقدَّم في “صواني” كبيرة ترمز إلى الكرم والضيافة.
وترى الدكتورة منى عبد الله، أستاذة الأنثروبولوجيا بجامعة القاهرة، أن “الفتة ليست مجرد غذاء، بل هي تمثيل حي لمفهوم العيد كحدث جماعي، حيث تتقاطع الأبعاد الدينية والاجتماعية والثقافية. وهي أيضًا مساحة لإعادة إنتاج الهوية الثقافية، إذ تنتقل طريقة إعدادها من جيل إلى آخر شفهيًا، مما يجعلها أحد عناصر التراث الغذائي غير المادي في مصر”.
الفتة بين الحداثة والتراث.
رغم ظهور أنماط غذائية جديدة ومحاولات تطوير وصفات تقليدية بأساليب عصرية، فإن فتة اللحم الضاني لا تزال محافظة على مكانتها، خصوصًا في الأعياد. وقد ظهرت في السنوات الأخيرة محاولات لإدخال إضافات مثل المكسرات أو استخدام الأرز البسمتي بدلًا من المصري، إلا أن الغالبية من المصريين يفضلون الطابع الأصلي المرتبط بذاكرة الطفولة والعائلة.
وفي هذا السياق، يؤكد الشيف أحمد البحيري، أحد الطهاة المتخصصين في المطبخ المصري التقليدي، أن “الفتة في العيد لا تقبل الكثير من التغيير. الناس يرتبطون بها عاطفيًا، ولا يتسامحون كثيرًا مع التعديلات التي تفقدها روحها الأصلية، حتى لو كانت تلك التعديلات ‘أرقى’ من وجهة نظر الطهي العصري”.
سياحة المطبخ المصري في موسم الأعياد.
مع ازدهار السياحة الثقافية والغذائية، أصبحت الأطباق التقليدية مثل فتة اللحم الضاني عامل جذب للسياح الراغبين في تجربة الأعياد المصرية الأصيلة. وتقدم بعض الفنادق والمنتجعات السياحية عروضًا خاصة خلال عيد الأضحى تتيح للزوار، وخاصة العرب والأجانب، تذوق الأطباق المصرية في أجواء شعبية واحتفالية.
ويشير تقرير صادر عن وزارة السياحة المصرية إلى تزايد الإقبال على “التجارب السياحية الغذائية”، خاصة في المناسبات الكبرى كالأعياد، ما يعزز من أهمية الحفاظ على وصفات المطبخ المصري التقليدي باعتبارها أحد أوجه التراث الذي يمكن تحويله إلى قيمة اقتصادية وسياحية مضافة.
في ظل الاحتفاء الشعبي الكبير بعيد الأضحى في مصر، تبقى فتة اللحم الضاني أكثر من مجرد طبق رئيسي؛ إنها رمز للترابط الأسري، وامتداد حي لذاكرة ثقافية واجتماعية لا تزال تنبض بالحياة. وبين نكهة الخبز المغموس والصلصة بالثوم واللحم الطازج، يجد المصريون في هذه الوجبة طقسًا من طقوس الفرح والانتماء، يجعل من الفتة طبقًا لا يغيب عن موائدهم، ولا عن وجدانهم.
إقرأ أيضاً :