ما زالت سنوات الصراع السوري تخبرنا بأن معركتنا مع العنف هي عبارة عن ثالوث كل طرف فيه منتج للآخر، وينتجون جمعياً ما نطمح للوصول إليه. الطرف الأول هو الوعي المنتج للسلوك المنتج للثقافة، وكلما طال التفاعل بين هذه الأطراف كلما زاد وضوح صبغة السلام في المجتمع. وكل ذلك لاحق لبناء المعرفة المرتبطة ببناء السلام، والتي تعتبر الدور التأسيسي للمجتمع المدني في سوريا. سورياً: ما هي المعرفة المطلوبة لبناء السلام الناجح؟ ومن ينتجها؟
نوع المعرفة المطلوبة
تعقيد الصراع السوري يتطلب تطوير نهج بناء سلام قد لا يتشابه -في بعض أجزائه- مع أي نهج في أي مكان في العالم. مناطق السيطرة المختلفة من حيث الجهة المسيطرة، ومن حيث ثقافة المنطقة المحلية؛ تفرض على منظمات المجتمع المدني الإلمام الكامل بالسياق الثقافي والاجتماعي والاختلافات المناطقية، فشمال شرق سوريا يختلف عن شمال غرب وعن الجنوب والوسط والغرب، الذي يعد أمراً لا غنى عنه لتعزيز الفهم بالقيم والممارسات المحلية التي تسهم في بناء السلام. يمكن للحوامل المحلية/العرفية/التقليدية (العشائرية) في مجال حل الصراعات المجتمعية أن تؤدي دوراً مهماً جداً في عملية بناء السلام.
أبعاد الصراع السوري المعقدة والمترابطة تفرض على المجتمع المدني البحث في عمق دوافع الصراع والإحاطة بها. كل نزاع يحتاج لتحليل شامل، هذا التحليل يجب أن يشمل العوامل الاقتصادية والسياسية والقيمية والدينية والثقافية التي يتم إثارتها في خطابات أطراف النزاع. ويجب أخذ السياق الإقليمي والدولي بعين الاعتبار عند تحليل النزاع. فالنزاع السوري اليوم أصبح أكثر تجزؤاً وأقل استجابة لأشكال الحل التقليدية، ما يجعلها أطول أمداً وأكثر فتكاً. “ويعزى هذا بدرجة كبيرة إلى اكتساب النزاعات لطابع إقليمي يؤدي إلى الربط بين المسائل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية عبر الحدود، فتعزز بالتالي تلك النزاعات بعضها بعضاً”.
في سوريا منظمات ضليعة في موضوعة بناء السلام، إلا أنها قليلة ويواجه بعضها صعوبات في تنفيذ تدابير بناء السلام، تلك الصعوبات ناتجة عن حالة من عدم الفهم الكافي للمعايير والقيم الثقافية والدينية، وذات معرفة سطحية بطبيعة مكونات المجتمع السوري، وبشكل أكثر دقة، لا تدرك الدور الحاسم للجهات الفاعلة المحلية. مثلاً، خطابات الفاعلين فيها من الإشارات إلى الأعراف والقيم العشائرية مثل الشرف والعيب، الشيء الكثير، وهي أداة مهمة لتعبئة الناس من أجل الحرب والقتال، إلا أنها ومن جهة أخرى، تسهم في تعبئة الناس وحشد قواهم في السلام والتصالح. أي أنه من المروءة والأخلاق والشرف المرور عبر قنوات السلام القائمة، بدلاً من جعل القوة وسيلة للعدالة. وهذا متوقف على قوة نهج بناء السلام، وإبداع القائمين على العملية.
من ينتج هذه المعرفة؟
في سوريا، في الأعم الغالب تُشرك منظمات المجتمع المدني العاملة في بناء السلام في مشاريعها الفئات الأقل تأثيراً في المجتمع. تشرك السلطات المحلية والمنظمات الأخرى وأحياناً وجهاء محليين، ولكنها لا تشرك رؤساء العشائر، ومشايخ الدين وممثلي الفئات المهمشة. كل هؤلاء يمتلكون معرفة عملية في السياق المحلي، وهي مصادر مهمة عند خوض منظمات المجتمع المدني في فهم القيم والمعايير المحلية، ولها أهمية خاصة في فهم التفاعلات القائمة بين مختلف الجهات المحلية الفاعلة، وبالتالي، يمكن الاعتماد عليها في وضع إستراتيجيات معينة لتحقيق هدف معين في مجال معين.
أيضاً، من الفئات المهمشة هم الفنانون، فالفن حسب البعض، القلب النابض للمجتمع. يعد الفن مصدراً من مصادر المعرفة التي يمكن لمنظمات المجتمع المدني استخدامها في سياق عملية بناء السلام، كاستخدام الشعر والرسم والتمثيل وغيرها، “ويمكن للفن أن يكون جسراً للتواصل والحوار ويساعد على تحقيق التسامح والمصالحة”. والفن والفنانون، يعكسون الماضي و/أو الحاضر في أعمالهم، ما يشكل نوعاً من القدرة عند المتلقي للتفكير بشكل نقدي في بيئته. أي أن الفنانين من خلال أنشطتهم يوفرون معرفة حول بنية وتاريخ المجتمع، ومعرفة بهوية التراث الفني لكل منطقة من سوريا. لا ننكر أن هناك جهوداً محلية من هذا النوع، إلا أنها خجولة، وهي بحاجة لتعزيز وتصدير.
ومما يعتبر مهماً في هذا الجانب، الأكاديميون والمعلمون المحليون، غير أنهم ليسوا المصدر الوحيد للمعرفة المرتبطة ببناء السلام كما أسلفت، دورهم الرئيسي هو إكمال مصادرة المعرفة السابقة بتقديمهم لرؤى عميقة وواسعة النطاق متعلقة ببناء السلام والقيم الاجتماعية السائدة، ووضعهم للدروس المستفادة من عمليات بناء السلام في بلدان أخرى موضع النقد والتكييف مع الواقع السوري. والمعلمون يلعبون دوراً مهماً في إنتاج المعرفة المتعلقة ببناء السلام. فيمكن إشراكهم في تطوير المناهج الدراسية والمواد التعليمية التي تعزز السلام والتماسك المجتمعي.
منظمات المجتمع المدني تقدم مدخلات لصانع القرار والجهات المانحة، “كما يمكن لهذه المنظمات أن تشارك في تطوير برامج التدريب والتوعية التي تهدف إلى دعم قدرات الأفراد والجماعات على التعامل مع المشاكل المتعلقة بالصراع وبناء السلام”. هي أيضاً منتج للمعرفة بطريقتين: فيمكن لمنظمات المجتمع المدني أن تمول وأن تنفذ مشاريع بحثية متعلقة بموضوعة بناء السلام. ولوضوح محددات العمل البحثي وصرامة الأدوات المستخدمة؛ هذه الحالة هي الأكثر تماسكاً. الطريقة الثانية: بعد إتمام مشاريع البحوث والدراسات، صار لدينا معرفة جديدة مقبولة لموضوعيتها وحياديتها. فمنظمات المجتمع المدني منتجة للمعرفة من خلال الأبحاث والدراسات التي تمولها أو تنفذها، وهي من المصادر المباشرة للمعرفة المتعلقة بالأجزاء المتعددة لبناء السلام.
أخيراً، الأمر المهم في عملية إنتاج المعرفة هو أن تكون العملية تشاركية. فيجب أن تشمل العملية باحثين من داخل وخارج السياق، فالمجال هنا أوسع للاستفادة من وجهات نظر جديدة وقد تكون جديرة بالمناقشة. الأمر المهم الآخر والمتعلق بعملية تحليل المعرفة، هو الموضوعية. من الصعب جداً أن يكون الإنسان/الباحث موضوعياً بالمطلق، إلا أنه يجب عليه الانتباه لكيفية تأثير الخلفية التي تنتمي إليها العينة، وطبيعة الطبقة التي تنتمي إليها، والعرق، والجنس، ومستوى التعليم، وغير ذلك. وببناء شراكات مع الجهات الفاعلة من قبل المجتمع المدني؛ يمكن لهذه المعرفة أن تنشر وتعزز بكفاءة.