بدأت قصة التدخل العسكري الروسي العسكري في سوريا في 30 سبتمبر/أيلول 2015، حين طلب الرئيس فلاديمير بوتين من مجلس الدوما (البرلمان الروسي) السماح بنشر القوات المسلحة في سوريا، قطع المجلس البث الحي للمناقشة وتحولت إلى جلسة مغلقة منحت الرئيس التفويض باستخدام القوات المسلحة في الخارج بالإجماع.
قبل ذلك بعدة أشهر، كان الرئيس المخلوع بشار الأسد قد صعَّد لهجة استغاثاته بالخارج بعد حسم فصائل المعارضة السيطرة على كامل مساحة محافظة إدلب، بما فيها المربع الأمني ومعسكر معمل القرميد الإستراتيجي الذي يُعد أقدم قواعد قوات النظام، وبدا أن مشهدا جديدا ينتظر الساحة السورية، وأن سقوط محافظات أخرى بات قريبا.
عقب قرار مجلس الدوما، أرسلت موسكو طلبا رسميا إلى الطيران الأميركي بالخروج من المجال الجوي السوري، فيما أعلن رئيس ديوان الرئاسة الروسية، سيرغي إيفانوف، أن دعم بلاده العسكري لسوريا يأتي بناء على طلب من الرئيس السوري بشار الأسد، بما يجعل تصرفات روسيا مشروعة ومتوافقة مع القانون الدولي، على العكس من دول أخرى، بما فيها الولايات المتحدة، التي تنفذ ضربات جوية في الأراضي السورية، دون استناد إلى قرار من مجلس الأمن أو طلب من الدولة التي تجري فيها الغارات.
وكانت روسيا، قبل قرار الدوما بقرابة الشهر، قد عززت وجودها العسكري في الأراضي السورية، عبر حشد قوات وأصول في نقطة الدعم اللوجيستي في ميناء طرطوس جنوب مدينة اللاذقية، شمل ذلك تجميع قذائف طائرات وقنابل جوية وصواريخ جو – أرض، وبالإضافة إلى ذلك، أُنشئت مجموعة طيران مختلطة تضم أكثر من 50 طائرة في قاعدة حميميم الجوية على بُعد 19 كيلومترا جنوب اللاذقية.
كما أن روسيا وقَّعت اتفاقا مع النظام السوري في أغسطس/آب 2015، يسمح لقواتها العسكرية باستخدام قاعدة حميميم دون مقابل ولأجل غير مسمى.
لتبدأ بعد ذلك فصول قصة عمرها 9 سنوات، كثَّفت فيها موسكو من دعمها نظام الأسد ومنحته قُبلة الحياة، بعدما أوشك على السقوط خلال النصف الأول من 2015، حيث كان يسيطر فعليا في ذلك الوقت على قرابة 10% فقط من مساحة البلاد، رغم الدعم الذي تلقَّاه من الحرس الثوري الإيراني على مدار 4 سنوات سبقت التدخل الروسي.
بيد أن الانهيار السريع لقوات جيش النظام أمام فصائل المعارضة خلال عملية “ردع العدوان” يطرح علامات استفهام كبيرة، فرغم جهود الروس المتواصلة لتثبيت أركان حكم الأسد، فإن النتيجة النهائية لم تكن على النحو الذي طمحت إليه القيادة الروسية، فما الأسباب التي قد تكون وراء ذلك؟
كلفة التقديرات الخاطئة
يرى أليكسي خليبنيكوف، مستشار وخبير شؤون الشرق الأوسط في المجلس الروسي للشؤون الدولية، أن القادة الروس توقعوا تحقيق نتائج سريعة عند تخطيطهم للتدخل بعد اندلاع الثورة السورية، إذ اعتقدوا أن الجيش السوري، بدعم من القوات الجوية الروسية، يمكن أن يقلب الموازين ويسيطر على البلاد في غضون 3-4 أشهر فقط، ولذا لم تُوضَع أي خطط لتحديث الجيش السوري أو تعزيز قدراته، وتركزت الجهود الروسية على تنفيذ الضربات الجوية.
وبحسب وزارة الدفاع الروسية، نفَّذ الطيارون الروس 934 مهمة قتالية انطلاقا من قاعدة حميميم في الفترة ما بين 30 سبتمبر/أيلول إلى 22 أكتوبر/تشرين الأول 2015، واستخدمت في معظمها صواريخ جو – أرض عالية الدقة من طراز “Kh-29L”، كما شنَّت سفن من الأسطول الروسي في بحر قزوين 26 ضربة بصواريخ كروز على 11 هدفا أرضيا.
ولكن سرعان ما أدركت موسكو أن الضربات ليست كافية لتحقيق السيطرة على الأرض، وهو ما أكده القائد الأول للقوات العسكرية الروسية في سوريا، الجنرال ألكسندر دفورنيكوف، عبر إشارته إلى أن القوات المسلحة السورية كانت مستهلكة تماما بحلول عام 2015، حيث انخفضت معنويات أفرادها، وأظهرت إجمالا كفاءة منخفضة للغاية على مستوى القيادة والسيطرة.
وفق ذلك، أدركت موسكو أن نظام الأسد لن ينجو دون إعادة بناء قواته النظامية بشكل فعال ومتماسك، لكنها في الوقت ذاته أدركت صعوبة ذلك، نظرا لمحاصرة النظام، آنذاك، من قِبَل قوات المعارضة المسلحة من جهة وتنظيم الدولة الإسلامية من جهة أخرى، فضلا عن تدهور المستوى القيادي لعمليات الجيش، حيث كانت القوات السورية تعمل بطريقة أشبه بالفصائل المسلحة المتباينة.
ومن أبرز أسباب ذلك إدراك نظام الأسد أن قواته النظامية بمفردها لن تتمكن من إبقائه في السلطة، بسبب أزمات الانشقاق وهروب الأفراد من الجيش إثر اندلاع المواجهات مع المعارضة، ومن ثم قاد النظام عمليات تجنيد ميليشيا محلية عبر لجان شعبية، تكوّنت من عناصر الأجهزة الأمنية والعاملين في الهياكل الحزبية، ضمن المناطق التي تشهد احتجاجات مستمرة، وتألفت هذه الميليشيات من غالبية درزية في جرمانا، ومن العلويين في حمص واللاذقية، وبلغ عدد المنتسبين إليها في ريف دمشق وحدها عام 2012 نحو 24 ألف مقاتل، وفق تقدير مركز جسور للدراسات.
ورغم أن هذه الميليشيات اتخذت طابعا أكثر تنظيما تحت اسم “قوات الدفاع الوطني” بنهاية عام 2012، وبلغ قوامها 100 ألف مقاتل بحلول عام 2013، ثم نحو 200 ألف في عام 2018، لكن اعتمادها على المدنيين والجنود المتقاعدين لا على العسكريين النظاميين أفقدها الأداء المتماسك وقابلية العمل تحت قيادة عسكرية موحدة.
أدركت موسكو أن هذه الميليشيات تُشكِّل خطورة على نظام الأسد، لكونها تعمل بعيدا عن الرقابة الصلبة، كما تعتمد في تجنيدها على التمحور حول شخصيات محلية مؤثرة، بشكل يجعل قياداتها أشبه بأمراء حرب قابلين للتمرد في أي وقت، خاصة مع احتمالية تصاعد المنافسة بين هؤلاء والجيش النظامي، ورغبتهم في الانفراد بالسلطة بعيدا عن مركزية دمشق.
تشكيل الفيالق.. شكلا لا مضمونا
أخذت موسكو خطواتها الأولى لاستيعاب هذه القوة داخل النظام العسكري، عبر إنشاء “الفيلق الرابع – اقتحام” من قِبَل رئيس هيئة أركان النظام، وتُعد هذه المرة الأولى التي تُستَحدث فيها فيالق عسكرية جديدة ضمن المؤسسة العسكرية السورية منذ سبعينيات القرن الماضي.
وبحسب وزارة الدفاع الروسية، ضم الفيلق مزيجا متنوعا اعتمد خلاله على قوات مختلفة من الجيش بجانب أفراد الميليشيات المحلية، حيث ضم فرقة المشاة الثانية، ولواء الحرس الجمهوري 103، ولواء الهجوم الأول، والفوج 48، والفوج 53 للأغراض الخاصة، كما أُنشئت وحدات جديدة من جنود غير نظاميين ومجندين من قوات الدفاع الوطني من اللاذقية.
وبُغية إعدادهم للقتال، تلقَّى المجندون تدريبا أساسيا سريعا من المستشارين العسكريين الروس، وزُوِّدوا بمعدات ثقيلة منها دبابات وناقلات مدرعة للأفراد، غير أن الفيلق لم يحقق القيمة الأساسية المطلوبة المتمثلة في تحسين القيادة والسيطرة، كما عانى من النقص العددي، حيث احتوى على عشرين مجموعة هجومية منفصلة تضم كلٌّ منها نحو مئة جندي فقط، مما يعني أن قوة الفيلق تجاوزت بالكاد 2000 مقاتل في خطوطه الأمامية، في أفضل الأحوال، ولم تصل إلى ما يعادل قوة فرقة كاملة.
وعلى جانب آخر، ظل الفيلق منوطا به مهام دفاعية محدودة في اللاذقية وشمال غرب حماة، بعيدا عن الغرض الأساسي من استحداثه ليكون قوة اقتحام هجومية، ولم يحدث ذلك إلا في لحظات محدودة مثل مشاركته في الهجوم على شمال اللاذقية عام 2016.
ونظرا لانتشار الفيلق الرابع حصرا في اللاذقية واعتباره خطوة تجريبية إلى حدٍّ ما، فقد تلا ذلك إنشاء “الفيلق الخامس – اقتحام” في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، بهدف نشره في عموم سوريا مع وضع متطلبات خدمة مختلفة في تكوينه، منها اعتماده على المتطوعين، مع توفير حوافز مالية للمنضمين تتمثل في الحفاظ على رواتب ما قبل الحرب والمكافآت العسكرية، بهدف تجنب التحديات المتعلقة بفرار المقاتلين وغياب الدافع، حيث خُصِّص لمقاتليه مبلغ شهري بين 200-300 دولار، ما يُعد راتبا جذابا في سوريا التي مزقتها الحرب.
ومع ذلك، يرى خبراء أن معايير التشغيل الأساسية لكلا الفيلقين قد غابت، مقارنة بالفيالق الثلاث الأولى في الجيش السوري المنشأة قبل عام 2011، حيث لم يُسمح لأيٍّ منها بالمشاركة في المعارك في حالة بلوغها نسبة استكمال أقل من 90%، بينما لم تتجاوز نسبة استكمال الفيالق الجديدة في أفضل الأحوال 35% من العتاد والقوة البشرية.
وعلى مستوى البنية التنظيمية، لم تمتلك هذه الفيالق ألوية دعم مدفعي أو دفاع جوي أو وسائط حرب إلكترونية على غرار ما يحدث في الجيش النظامي، كما لم تمتلك رصيدا جويا مخصصا يؤمِّن تحركاتها ويُمكِّنها من تنفيذ عملياتها دون الاستعانة بالقوة الجوية المركزية للجيش، بل بقيت هذه الفيالق مجرد وحدات مشاة مستقلة ضمن قيادة مشتركة، مما يعني أنها مجرد وحدات تتخذ قوام فيلق شكلي، وأن إنشاءها لم يكن حقيقة بدافع التحديث، وإنما لإضفاء الطابع المؤسسي على الميليشيا التابعة للنظام.
روسيا وإيران.. أهداف متعارضة أحيانا
لم يكن تدخل موسكو عسكريا في سوريا يهدف فقط إلى تثبيت أركان نظام الأسد في السلطة، بل ثمة أبعاد أوسع من ذلك كانت تُضمرها موسكو، أهمها كان إظهار قدرتها على التدخل الإيجابي وضبط الأوضاع الأمنية المتردية بعد 4 سنوات من الصراع، لتُثبت بذلك تفوقها على واشنطن في هذا الشأن، بعدما واجهت الأخيرة فشلا ذريعا في ضبط الأمن في كلٍّ من العراق أو أفغانستان.
لهذا الغرض، أوفدت موسكو كتيبتَيْن من شرطتها العسكرية في ديسمبر/كانون الأول 2016 إلى حلب الشرقية بعد سقوطها في قبضة قوات النظام، لمساعدة الشرطة المحلية في استعادة الأمن وضبط الأوضاع، وثمة تقارير قد أشارت إلى أنه كان من بين تلك القوات نحو 1600 مقاتل شيشاني.
وبخلاف الدور الأمني لتلك القوات، ساهمت في إيصال المساعدات الإنسانية للسكان، كما أشرفت على التنفيذ الميداني لاتفاقيات وقف إطلاق النار المحلية بين النظام وقوات المعارضة.
ويبدو أن موسكو قد عمدت إلى استقدام المقاتلين الشيشانيين لكونهم من المسلمين السنة، حيث أرادت بذلك أن تحد من مخاوف سكان حلب المتعلقة بزيادة هيمنة النفوذ الشيعي الإيراني. لكن رغبة موسكو لم يتسنَّ لها التحقق، فمن المرجح أن هذه الخطوات قد لاقت معارضة سورية–إيرانية ورفضا للهيمنة الروسية، ورغبة في تحجيم قبضة موسكو على الأجهزة الأمنية والجيش السوري.
ويبدو أن الأسد قد عمد إلى إفشال جهود موسكو في حلب، فزاد اضطراب الأوضاع الأمنية، وتصاعدت أعمال خطف المدنيين على يد ميليشيات الدفاع الوطني، التي ترأسها اللواء بسام مرهج، وهو أحد المقربين من الأسد، مما دفع روسيا إلى سحب شرطتها العسكرية من المدينة عام 2018.
فضلا عن ذلك، شهدت حلب وقوع اشتباكات بين قوات روسية وأخرى إيرانية في أكثر من مناسبة، أسفر بعضها عن سقوط عدد من القتلى والجرحى، كما جرت وقائع مماثلة بين الطرفين في دير الزور شرقي سوريا خلال إبريل/نيسان 2019، وكذلك في ريف حماة، بعدما سيطر الفيلق الخامس المدعوم من روسيا على الجبهة، وأبعد عنها الميليشيات الإيرانية والفرقة الرابعة الموالية لطهران.
أما اللافت فهو انخفاض حوادث الاختطاف والاشتباكات في حلب إثر خروج الشرطة العسكرية الروسية منها، مما يزيد من ترجيح أن المقصود بذلك كان توجيه رسالة إلى موسكو من جانب طهران، مفادها أن الميليشيا الإيرانية سوف تقف في وجه محاولات بسط السيطرة الأمنية الروسية.
ومع تراجع حِدّة القتال لاحقا، حوّل الطرفان أنظارهما إلى الموارد الاقتصادية السورية، ومن ثم بدأ التنافس على عقود النفط والغاز والفوسفات والاتصالات والزراعة، وغيرها من المجالات. ومن أجل دعم تحالفاتهما الناشئة مع الشركات المحلية، أنشأ كلٌّ منهما مجلسَ أعمالٍ خاصًّا في دمشق.
وترى بورشفسكايا، الزميلة البارزة في معهد واشنطن والمختصة بسياسات روسيا في الشرق الأوسط، أن من الصعب القول بانعكاس هذه المنافسة على خلاف إستراتيجي أعمق بين الحليفين، رغم أن المعلومات المتاحة تؤكد أن الروس حصلوا على صفقات أفضل من الإيرانيين، وأن موسكو كانت بصدد اكتساب نفوذ أكبر على المدى الطويل في سوريا، من خلال الاقتصاد ونفوذ القوة الناعمة مثل اللغة والبرامج الأخرى.
على جانب آخر، كان الهدف الإيراني المتمثل في بسط النفوذ الأيديولوجي ضمن ما يسمى أحيانا بالهلال الشيعي إحدى وسائل الصدّ أمام نفوذ موسكو الناعم، مما أدى إلى شعور الأخيرة بالقلق إزاء توسع النفوذ الديني على النظام العلماني في دمشق، وفق ما ترجّح بورشفسكايا.
أما بالنسبة للأسد، فقد وفّر نفوذ موسكو فرصة لمقاومة رغبة طهران في جعل سوريا مجرد دولة تابعة، من خلال استغلال أحدهما أمام الآخر لإحداث نوع من التوازن، إذا لزم الأمر، مما يعني بعبارة أخرى أن الحلفاء في لحظة ما باتوا أشبه بمجموعة ثعالب متربصة ببعضها داخل وكر.
هكذا عارضت طهران خطط موسكو المتعلقة بتوحيد القوات تحت قيادة واحدة، ويبدو أنها رأت في ذلك ضررا مباشرا بالمصلحة الإيرانية، حيث موّلت طهران شبكة التشكيلات غير النظامية على مدار سنوات قبل أن تدخل روسيا على مسار الحرب، وبالتالي، فإن هذه الميليشيا كانت أكثر ولاء لإيران، فيما أن تفكيكها وتحويلها إلى جيش نظامي سوف يمنح روسيا الكلمة الفاصلة، نظرا لأن هيكل القيادة العمودي يُعد عنصرا حاسما في الإستراتيجية العسكرية الروسية، وهو ما لم تكن إيران مستعدة لتقبله.
تعقد الحسابات..
في ظل تعارض المصالح، ومع سوء الأحوال الاقتصادية وتدني قيمة رواتب الضباط بسبب الحرب، حلَّت الانتهازية مكان الاحترافية والعقيدة العسكرية، بحسب رأي خضر خضور، الباحث في مركز مالكوم كير – كارنيغي للشرق الأوسط، مما تسبب في استشراء الفساد داخل المؤسسة العسكرية.
من مظاهر ذلك لجوء الضباط من ذوي الرتب المتوسطة والعالية إلى توسيع شبكات المحسوبية التابعة لهم، بغرض اقتناص المنافع الشخصية من خلال الإشراف على إدارة نقاط التفتيش التي تولّتها الميليشيات، بما يُمكِّنهم من تلقي رشاوى من المواطنين الذين يعبرون هذه الحواجز، فيما لجأ البعض الآخر إلى جمع الرشاوى من المجنّدين في مقابل السماح لهم بتفادي الخدمة العسكرية.
وإجمالا، أسهم فساد المؤسسة العسكرية السورية في مقاومة الإدارة الروسية ومحاولتها إعادة هيكلة هذه المؤسسة. ويبدو أن موسكو كانت تصل، يوما بعد يوم، إلى حقيقة صعوبة استعادة جيش سوريا ما قبل الحرب، وأن أفضل ما يمكن تقديمه هو منع النظام من السقوط وليس إعادة تأهيل الجيش.
ويدعم هذا الاستنتاج تجارب تسليح الجيش السوري التي خاضها الروس خلال تلك الفترة، حيث لم يسفر تزويد القوات السورية بدبابات متطورة عن تأثير كبير في ساحة المعركة، نظرا لأن طواقم العمل افتقرت إلى التدريب الكافي، واستخدمت هذه الدبابات بالتكتيكات نفسها التي استخدمتها مع طرازات قديمة مثل “تي-55″ و”تي-77”.
ونتيجة لذلك، توجهت روسيا لدعم وحدات المشاة، بأسلحة مثل مدافع الرشاش ذات العيار الكبير وأنظمة الكورنيت المضادة للدبابات، وهي أسلحة رخيصة الثمن وأسهل في إتقانها ومثالية لتكتيكات الوحدات الصغيرة، بينما تَمثَّل الإمداد الوحيد المهم والمتطور لأنظمة الدفاع الجوي في منظومة “إس-300″، التي كان إدخالها إلى منظومة الدفاع الجوي السورية من قبيل المصادفة، ورد فعل على إسقاط طائرة استطلاع روسية بنيران صديقة.
وبشكل ما، تُعبِّر إستراتيجية التسليح الروسية عن نظرة موسكو إلى واقع الجيش السوري، واعتباره ليس مؤهلا لاستخدام آليات حربية متطورة، تزامنا مع إدراكها أنه ليس من الممكن تقديم مساعدة أبعد من ذلك، وأن أفضل ما يمكن أن تحققه قوات النظام السوري هو أداء مهام وحدات مشاة تابعة، في حالة تحسُّن قدرات القيادة والسيطرة، بينما يجب على موسكو الاستمرار في أداء مهامها الجوية والأدوار الأكثر تعقيدا.
وصحيح أن ذلك بدا كافيا لإحداث الفارق لصالح الأسد في وقت ما، لكن تغير الأولويات إثر تصاعد الحرب الأوكرانية أدى إلى تحول الانتباه الروسي بعيدا عن الساحة السورية، ولم تكن موسكو حاضرة في الوقت ولا في المكان المناسب لإنقاذ الأسد من جديد.
وعلى جانب آخر، غاب حزب الله اللبناني عن دعم النظام في ظل مواجهته مع إسرائيل وفقدانه عددا كبيرا من قياداته ومقدراته العسكرية، إضافة إلى تخوفه من تداعيات عودته وانخراطه بقوة في الساحة السورية على المعادلة السياسية الداخلية في لبنان.
والمحصلة أنه في لحظة جادة، وبعد مسيرة 9 سنوات من دعم الأسد، كانت حسابات موسكو في ظروف معقدة ترجح أن تكلفة الاستمرار في إنقاذ الأسد مرة أخرى باتت أكبر بكثير من المنافع المرجوة من بقائه، وعموما فإن الأيام وحدها كفيلة بكشف دوافع أكثر وراء ذلك.