نشرت وكالة رويترز للأنباء تحقيقا موسعا عما بات يعرف بأحداث الساحل السوري التي جرت في مارس/آذار الماضي في محافظتي اللاذقية وطرطروس الساحليتين، وبعض المناطق في ريف حماة وحمص، حيث يتركز وجود الطائفة العلوية في سوريا.
كان ذلك في خضم حملةٍ أمنيةٍ نفذّتها الحكومة السورية الجديدة، ردًّا على عمليات تمرّد منظّمة قام بها ضباط من نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، استهدفت قرى ومدنيين ونقاطا أمنية في الساحل.
استند التحقيق -الذي أجراه فريق ميداني تابع للوكالة ونُشر يوم 30 يونيو/حزيران الماضي- إلى مقابلات مع أكثر من 200 عائلة من عائلات الضحايا، بالإضافة إلى 40 آخرين بين عناصر أمن وعسكريين ومحقّقين عيّنتهم الحكومة ووسطاء، واعتمد في إحصاء الضحايا على قوائم كتبها وجهاء محليون وعائلات الضحايا عقب الأحداث.
كما درس عشرات الفيديوهات المنشورة وما سجّلته كاميرات مراقبة، واطلعت رويترز على قناة تيلغرام أنشأتها وزارة الدفاع لتنسيق الردّ الحكومي على التمرّد الذي قام به موالون للأسد.
ما الذي توصل إليه التحقيق؟
وثّق التحقيق، مقتل 1479 شخصا علويا (ولم يذكر أعداد الضحايا من الطوائف الأخرى)، وتغييب عشرات آخرين في الفترة بين 6 و9 مارس/آذار، فضلا عن تسجيل عمليات حرق ونهب وتمثيل بالجثث، وهو ما دفع الرئيس أحمد الشرع إلى تشكيل لجنة مستقلة للتحقيق في هذه الأحداث.
وسجل التقرير أن 40 موقعًا سوريا شهدت مجازر وحرائق، وكان من بينهم عائلات كاملة ونساء وأطفال وشيوخ، في عشرات القرى والأحياء ذات الغالبية العلوية في الساحل السوري، وأشار إلى مقتل 200 عنصر من قوات الأمن، نقلا عن الحكومة السورية الجديدة.
وسمّت الوكالة فصائل تابعة للحكومة السورية شاركت في الأحداث، وقال التقرير إن العديد منهم انضموا إلى القوات الحكومية قبل بضعة أشهر فقط، وإن اندفاع بعضهم جعلهم يعتبرون أن صفة “فلول” (التي يشار بها إلى أتباع النظام السابق) تشمل أي شخص من أبناء الطائفة العلوية التي اعتمد عليها الأسد في توطيد حكمه.
يُذكر أنّ الشبكة السورية لحقوق الإنسان كانت قد وثقّت -في آخر إحصائية أصدرتها عن أحداث الساحل بتاريخ 16 أبريل/نيسان الماضي- مقتل 1662 شخصا (دون أن تحدد انتماءاتهم الطائفية)، منهم 1217 شخصا قتلتهم القوات المشاركة في العملية العسكرية، من بينهم 51 طفلا و63 سيدة و32 من الكوادر الطبية، بينما قتل فلول النظام السابق أثناء تمردهم 445 شخصا، من بينهم 231 مدنيا، و214 من قوات الأمن العام.
ونبّهت الشبكة إلى أن الضحايا الذين سقطوا على يد القوات المسلحة يضمّون مدنيين وعناصر من فلول الأسد منزوعي السلاح، وأن معظمهم قُتلوا على يد فصائل عسكرية انضمت مؤخّراً إلى إدارة الأمن العام.
ويورد تقرير رويترز العديد من الشهادات المروّعة، ويشير إلى سلوكات طائفية رافقت الأحداث، منها أن أفرادا من القوات المتصدية للتمرد كانوا ينادون بذبح العلوية، أو يتعمدون إهانة رجال منهم ويجبرونهم على النباح كالكلاب، وأكّد عدد كبير من الشهادات التي جمعتها رويترز أنهم كانوا يسألون: “هل أنت سنوي أم علوي؟”.
كما تخلّل الأحداث أعمال انتقامية بين قرى ومناطق متجاورة متباينة طائفيا، كان نظام الأسد يستخدم بعضها في شنّ هجمات على المناطق المناوئة له.
وفي المقابل، وثّق فريق رويترز العديد من الحالات التي ساعد فيها سنة جيرانهم العلويين، خصوصًا في مدينة بانياس، من خلال تهريبهم أو حمايتهم أو إسعافهم إلى المراكز الطبية.
الفصائل المشاركة ومكانها في الدولة
ومن أهم التفاصيل التي يكشفها تحقيق الوكالة، ما أورده بشأن القوات المشاركة في العملية وموقعها من الحكومة السورية الجديدة.
فقد توصل إلى أنّ 12 فصيلاً على الأقل شارك في العملية، من بينها قوات الأمن العام، وعدد من الوحدات السابقة في هيئة تحرير الشام، كالفرقة 400 (التي يسمّيها وحدة 400)، ولواء عثمان، بالإضافة إلى فرق انضمت حديثًا للحكومة كالسلطان سليمان شاه، المعروفة بالعمشات، وفرقة الحمزة.
ويذكر أيضًا فصائل جيش الإسلام، وجيش الأحرار، وجيش العزة، فضلا عن مقاتلين أجانب كان منهم الحزب الإسلامي التركستاني، ومقاتلين أوزبك وشيشانيين.
ومن الجدير بالذكر أن الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات على فرقتي السلطان سليمان شاه والحمزة في مايو/أيار الماضي، بسبب دورهما في أحداث الساحل، فضلا عن فرض عقوبات على 3 ضباط كانوا في صفوف قوات نظام الأسد، لقيادتهم مليشيا “أجّجت التوتّرات الطائفية وحرّضت على العنف”.

التحقيقات والمحاسبة
عقب أحداث الساحل، أمر الرئيس الشرع في 9 مارس/آذار بتشكيل لجنة مستقلة للتحقيق فيها، وتحديد المسؤولين عنها، تألّفت من سبعة أعضاء، منهم خمسة قضاة.
وكان من المفترض أنّ تسلّم اللجنة تقريرها النهائي في غضون شهر، لكنها طلبت تمديد مدة عملها إلى يوليو/تموز الجاري، وأكّد المتحدّث باسمها المحامي ياسر فرحان لرويترز أنها ستسلّم تقريرها النهائي خلال أسبوعين.
وأضاف فرحان أن اللجنة جمعت معلوماتٍ من أكثر من ألف شخص، واستجوبت عددا من المسؤولين والمعتقلين. كما أكّد أحد أعضاء اللجنة أنها تعمل بحريةٍ تامة، وسُمح لهم بمقابلة مسؤولين من مختلف الرتب دون أي تدخّل في عملها. وقد كشفت الأمم المتحدة أن السلطات السورية أعلمتها باعتقال عشرات المشتبه بتورّطهم في هذه الجرائم، لكن دون توجيه أي تهم إليهم حتى اللحظة.
ولم تتخذ اللجنة قرارا نهائيا بخصوص نشر نتائج تحقيقاتها للعامة، إذ صرّح مسؤول حكومي لموقع دروب سايت نيوز أن “المشهد معقّد للغاية، لقد كان هناك العديد من الفاعلين”.
وأشارت إلى عدد من العوائق التي تواجه عملها، فمثلاً لم تستطع اللجنة الوصول إلى قرية الرصافة، الواقعة في ريف حماة والتي شهدت مقتل 60 شخصًا بحسب التقرير، إلا بعد مرور ثلاثة أشهر.

الموقف الرسمي
وتواصلت وكالة رويترز مع عددٍ من المسؤولين الحكوميين للتعليق على التقرير. وعلى الرغم من رفض مكتب الرئيس ووزارة الدفاع التعليق على ملخّص تفصيلي أرسلته رويترز، علق مسؤولون آخرون على التقرير، منهم المتحدث باسم لجنة التحقيق ياسر فرحان الذي قال إن اللجنة سترفع تقريرها للرئيس خلال أسبوعين.
وأوصى فرحان وكالة رويترز بعدم نشر تقريرها قبل رفع تقرير اللجنة، مضيفا: “لا نستطيع تقديم أي رد قبل إتمام العملية احترامًا للحقيقة، وأتوقّع أنكم ستجدون نتائج التحقيق مفيدة وأنها ستكشف الحقيقة”.
وكان الرئيس الشرع أكّد في تصريحات لرويترز في مارس/آذار الماضي، أن “القانون سيأخذ مجراه على الجميع، ونحن بالأساس خرجنا في وجه [نظام الأسد]، ووصلنا إلى دمشق نصرة للناس المظلومين، فمعاذ الله أن نقبل أن يكون هناك قطرة دم تُسفك من غير وجه حق، وأن يذهب هذا الدم سدى دون المحاسبة”.
من جهته، قال المتحدّث باسم وزارة الداخلية نور الدين بابا، في تصريحات نشرتها شبكة ZDF الألمانية، إنّ ما جرى حدث في فوضى كبيرة، وكان هناك العديد من الجماعات التي لم يكن هناك سيطرة عليها، وقد حاولت الحكومة استعادة السيطرة، ونجحت بإقناع هذه الجماعات بالانسحاب.
كما أكد محافظ طرطوس أحمد الشامي لرويترز أن العلويين غير مستهدفين، إلا أنه كشف عن مقتل 350 شخصٍ تقريبًا في الأحداث بطرطوس، وهو ما يتسق مع نتائج التقرير.
كما نفى محمد الجاسم قائد فرقة السلطان سليمان تورّط قواته في أعمال العنف، وقال إن قواته لم يكن لها أي دور في أي عمليات قتل في القرى التي دخلها، وأن ما طُلب من فرقته هو فتح طريق “إم 1” الدولي، ومن ثم تمركزت خارج حدود مدينة جبلة، مؤكدا أنه كان عندئذ في أحد المستشفيات التركية لأسباب صحية.
وفي سياق متصل، ألقى باولو بينيورو رئيس لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا -التي أُسّست عام 2011- بيانًا شفهيًا بمجلس حقوق الإنسان في 27 يونيو/حزيران الماضي، عرّج فيها إلى أحداث الساحل، وذكر أنها نتاج خمسة عقود من الجرائم الممنهجة التي ارتكبتها قوات الأسد دون أي محاسبة، وهو ما أدّى إلى زرع بذور الشحناء بين المجتمعات.
وكشف بينيورو أن الحكومة السورية منحت فريق التحقيق التابع للجنة التحقيق الدولية وصولاً غير مقيّد إلى منطقة الساحل، بما في ذلك عدة مواقع شهدت عمليات قتل ونهب، وهو ما مكّن فريق التحقيق من جمع مئات الشهادات المباشرة عما جرى، مشيدا بردة فعل الحكومة السريع وَتَعهُّدِ الرئيس بمحاسبة المسؤولين.

هل يقدّم التقرير صورة كاملة؟
وأثار التقرير ردود فعل واسعة على شبكات التواصل، كان من بينها انتقادات لعدم شموليته وتقديمه لسياق غير وافٍ للأحداث.
ففي تصريحات للجزيرة نت، انتقد مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني التحقيق، وذلك “لإغفاله السياق الذي حصلت فيه أحداث الساحل”، منبّها إلى أن الحديث عن السياق لا يعني التبرير، لكن لا يجوز إغفاله، فهجوم فلول الأسد وقتلهم 400 من المدنيين وعناصر الأمن، وهو ما أجّج مشاعر الغضب والاحتقان لدى من قاموا بهذه الأفعال ومن ناصروهم.
كما نشر تشارلز ليستر الزميل الأول في معهد الشرق الأوسط ومدير قسم سوريا في المعهد، عددا من التغريدات تعليقا على التقرير، قال فيها إنّ نشره بعد صدور تقرير الحكومة كان أفضل.
وكشف ليستر أن الحكومة عملت كل يوم منذ 9 مارس/آذار على مقابلة الضحايا في عشرات المواقع، والتنسيق مع الجهات القانونية الدولية، مؤكّدًا أن كل ما وصل إليه من آراء عن عمل الحكومة، بما في ذلك من جهات قانونية خارجية، ذهب إلى أن الحكومة تقوم بعمل ممتاز في ظل ظروف صعبة وحساسة.
وأضاف أن تقرير رويترز لم يذكر أبدًا هجوم الجماعات العلوية المتمرّدة على قرى علوية أيضا، لرفضها إيواءهم والمشاركة فيما وصفته هذه الجماعات نفسها بالانقلاب، كما أنه لا يقدّم شرحا لعلاقة التمرّد بما جرى بعده في أحداث الساحل التي وصفها بأنها معقّدة للغاية أكثر مما يوحي به التقرير، مشددا على أنّ ما جرى من عنف أمر فظيع ويستلزم عدالة ومحاسبة حقيقية، وأن السوريين هم من يجب أن يتصدّروا هذه المساعي.