الحرب التجارية بين بكين وواشنطن
تشهد العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة والصين مرحلة جديدة من التوتر تعزز شبح تجدد وتفاقم الحرب الاقتصادية التي هزّت الأسواق العالمية وأثرت على سلاسل الإمداد الدولية.
تتفاعل الأحداث بوتيرة متسارعة، وسط تبادل للتهديدات والإجراءات بين القوتين الاقتصاديتين الأكبر في العالم، ما يثير مخاوف المستثمرين من دخول العالم مجددًا في دوامة الرسوم الجمركية والتدابير الانتقامية.
تتصاعد التحذيرات في الأوساط الاقتصادية من أن أي خطوة غير محسوبة قد تعيد مشهد الاضطراب إلى الأسواق، خصوصاً في ظل هشاشة التعافي العالمي من تباطؤ النمو وارتفاع التضخم. ويبدو أن الأسواق المالية بدأت تستشعر الخطر مبكراً مع زيادة الإقبال على الملاذات الآمنة وتراجع الثقة بالمخاطر المرتفعة.
في المقابل، تسعى العواصم الكبرى إلى قراءة المشهد بدقة، بحثًا عن مؤشرات تهدئة أو إشارات تصعيد، فيما تترقب الأنظار الخطوة التالية لكلٍّ من واشنطن وبكين في مواجهةٍ تبدو مرشحة لجولة جديدة من الصراع الاقتصادي الدولي.
في هذا السياق، يشير تقرير لصحيفة “نيويورك تايمز” إلى أن المستثمرين يخشون عودة الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، موضحاً أنه في الوقت الذي بدأت فيه الأسواق في التعافي، فإن المحللين يرون أسباباً كثيرة للقلق بشأن التوترات المتزايدة بين واشنطن وبكين.
- بدأ شبح تجدد الحرب التجارية يخيم على المشهد يوم الجمعة عندما هدد ترامب بفرض رسوم بنسبة 100 بالمئة على الصين.
- حاول الرئيس الأميركي تهدئة التوترات في عطلة نهاية الأسبوع، فكتب على تروث سوشيال: “لا تقلقوا بشأن الصين ، كل شيء سيكون على ما يرام”، مضيفاً: الرئيس الصيني شي جين بينغ “لا يريد كساداً لبلاده، وأنا أيضاً لا أريده.. الولايات المتحدة تريد مساعدة الصين، لا إيذاءها.
- الصين مُصرة على موقفها، فقد دافعت وزارة التجارة الصينية عن إعلان الأسبوع الماضي حظراً عالمياً على تصدير المعادن النادرة، وهي خطوة قد تُعيق شركات صناعة السيارات والمقاولين العسكريين وشركات التكنولوجيا الكبرى بشكل كبير . وصرح متحدث باسم الوزارة الصينية أمس: ” لسنا خائفين” من حرب تجارية مع الولايات المتحدة.
- واصل المتداولون شراء الذهب، الذي ارتفع بشكل حاد مع تصاعد الحرب التجارية.
ويتساءل التقرير: “هل هذه مجرد تكتيكات تفاوضية قاسية؟”، موضحاً أن المستثمرين يبدو أنهم يراهنون اليوم على ذلك الأمر، حتى مع اقتراب الموعد النهائي في نوفمبر لفرض رسوم جمركية قاسية.
ووفق التقرير، فليس من الواضح ما إذا كان ترامب سيتراجع عن تهديده، مشيراً إلى أن تنفيذ تهديده الأخير قد يعني ارتفاع الرسوم الجمركية على الصين إلى نحو 130 بالمئة، مما قد يُلحق ضررًا بالغًا بالشركات الصينية المُعرّضة للضرر .
شبح الحرب التجارية
يقول خبير أسواق المال، محمد سعيد، لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”:
- يبدو أن شبح الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين عاد ليخيم على الأجواء الاقتصادية العالمية، وهو ما يضع المستثمرين والأسواق في حالة من التوتر وعدم اليقين.
- الحديث عن فرض رسوم جمركية ضخمة قد تصل إلى 100 بالمئة على السلع الصينية خلق موجات بيع حادة في أسواق الأسهم، قبل أن يكتب الرئيس الأميركي تدوينة مٌطمئنة لاحقاً.
- هذا التوتر لا يؤثر فقط على معنويات المستثمرين، بل يضرب في صميم الاقتصاد الحقيقي عبر احتمالية تباطؤ النمو العالمي وتعطل سلاسل الإمداد التي تعتمد عليها قطاعات حيوية مثل التكنولوجيا والصناعات التحويلية.
ويضيف سعيد: “التأثير الأعمق يظهر في صورة ضغوط تضخمية متزايدة، فالرسوم الجمركية ترفع تكاليف الإنتاج والأسعار النهائية للمستهلكين، وفي الوقت نفسه تؤدي الإجراءات الانتقامية إلى إبطاء حركة التجارة العالمية، مما يهدد بسيناريو صعب يعرف بالركود التضخمي، إذ يجتمع تباطؤ النمو مع ارتفاع الأسعار”. وتشير النماذج الاقتصادية إلى أن هذا التصعيد قد يؤدي إلى انخفاض الأجور الحقيقية في الولايات المتحدة، ويقلص الناتج المحلي الإجمالي لكلا البلدين، ويضعف عملات الأسواق الناشئة وعلى رأسها اليوان الصيني.
كيف أشعلت الحرب التجارية خسائر أسواق الأسهم؟
ويتابع: ” في خضم هذه الأجواء المتقلبة، يلجأ المستثمرون بطبيعة الحال إلى ما يُعرف بالملاذات الآمنة لتقليل المخاطر؛ فالذهب والمعادن الثمينة تتصدر هذه الأصول، حيث يرتفع الطلب عليها كمخزن للقيمة في أوقات الاضطرابات، وهو ما يدفع أسعارها لمستويات قياسية وتستفيد معه أسهم شركات التعدين.. كذلك يزداد الإقبال على سندات الخزانة الأميركية والألمانية واليابانية لما توفره من استقرار نسبي، الأمر الذي يرفع أسعارها ويخفض عوائدها”.
لماذا تتجدد الحرب التجارية؟
وتحت عنوان “لماذا تجددت الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين؟”، يشير تقرير لصحيفة “الغارديان” البريطانية إلى إعلان وزارة التجارة الصينية، الخميس الماضي، عن تشديد القيود على تصدير المعادن النادرة ، مشيرة إلى مخاوف تتعلق بالأمن القومي (وهو ما دفع ترامب لإرسال تهديداته الأخيرة في اليوم التالي).
ويضيف التقرير:
- لقد شكّلت سيطرة الصين الخانقة على سلسلة التوريد العالمية للمعادن النادرة – وهي معادن موجودة في قشرة الأرض تُستخدم في صناعة كل شيء، من الإلكترونيات الاستهلاكية إلى السيارات والمعدات العسكرية – نقطة خلاف في الحرب التجارية.
- تُنتج الصين أكثر من 90 بالمئة من المعادن النادرة المُعالجة في العالم، وتسيطر على حوالي 70 بالمئة من قطاع التعدين العالمي .
واعتباراً من 25 سبتمبر، بلغ متوسط الرسوم الجمركية الأميركية على الواردات الصينية 58 بالمئة، بينما بلغت الرسوم الجمركية الصينية 33 بالمئة، وفقًا لتحليل أجراه معهد بيترسون للاقتصاد الدولي . وقد تم التهديد بفرض رسوم جمركية أعلى تصل إلى ما يقارب 150 بالمئة، ولكنها مُعلّقة قبل الموعد النهائي المحدد في 10 نوفمبر للتوصل إلى اتفاق.
لم يأتِ إعلان الصين بشأن المعادن الأرضية النادرة فجأةً. ففي الشهر الماضي، أعلنت الولايات المتحدة عن تشديد الرقابة على تصدير معدات تصنيع الرقائق إلى الصين، بهدف سدّ ما يُسمّى بالثغرات في خطط واشنطن لحرمان الصين من أشباه الموصلات المتقدمة.
وهذه ليست المرة الأولى التي تستغل فيها بكين سيطرتها على المعادن النادرة. ففي أبريل، فرضت قيودًا على الصادرات ، مما تسبب في تباطؤ التصنيع حول العالم. ثم رفعت هذه القيود مؤقتاً بعد بضعة أشهر.
ترقب بالأسواق
بدورها، تشير الكاتبة الصحافية الصينية، سعاد ياي شين هوا، لدى حديثها مع موقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إلى أن تهديدات الولايات المتحدة بفرض رسوم جمركية إضافية تصل إلى 100 بالمئة على الصادرات الصينية تأتي بالتوازي مع تشديد القيود على صادرات التكنولوجيا، ما أعاد المخاوف من تجدد الحرب التجارية بين البلدين وأشعل التوتر في الأسواق.
وتلفت إلى أن ردود الفعل المذعورة من المستثمرين ليست مستدامة، فالأهم هو فهم منطق السوق، مؤكدة أن التأثير الأكبر سيقع على الشركات الموجهة للتصدير، خاصة في قطاعات الإلكترونيات والسيارات الكهربائية والمعدات الصناعية، إذ قد تتراجع أرباحها بين 15 و20 بالمئة وفق بعض التقديرات.
وتستطرد: أما المستهلكون، فسيواجهون ارتفاعاً محتملاً في أسعار سلع أميركية وأجهزة إلكترونية وفواكه بنسبة تصل إلى 25 بالمئة.. لكن السوق الصينية أصبحت أكثر مرونة بفضل البدائل المحلية. وتوضح أن الأسواق أظهرت قدرة أكبر على التحمّل مقارنة بأزمات سابقة.
وتؤكد شين هوا أن الصين لم تعد في موقع الدفاع، بل تتعامل مع التحديات بأسلوب متوازن، إذ جددت ضوابط تصدير المعادن النادرة وفرضت موافقات خاصة على المواد المستخدمة في الرقائق، لافتة إلى أن هذه التحركات أبرزت مرونة الصناعة الصينية وخلقت فرصاً جديدة في قطاعات الموارد والزراعة، مع تنويع استيراد فول الصويا وتوسيع إنتاج البذور المعدلة.
وتختتم حديثها بالتأكيد على أن الحرب التجارية تمر بمراحل صدمة وتباين ثم تعافٍ، متوقعة أن يشكل اجتماع منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ (APEC) نهاية أكتوبر فرصة للتهدئة.
أنيس: رسوم ترامب تسببت بكسر قواعد منظمة التجارة العالمية