اقتصاد الهند
بعد ستة أشهر على بداية الولاية الثانية للرئيس الأميركي دونالد ترامب، باتت ملامح التجارة العالمية أكثر غموضاً من أي وقت مضى، ففي ظل الضبابية المتزايدة وعدم استقرار العلاقة التي تربط بين واشنطن وبكين، بدأ المصنّعون العالميون يعيدون النظر في استمرار وجودهم داخل الصين، التي يثقل كاهلها بعضٌ من أشدّ الرسوم الجمركية الأميركية.
وبينما تدفع التوترات المصنّعين للبحث عن بدائل عن الصين، تتحرّك الهند لاقتناص الفرصة والاستفادة من إعادة هيكلة سلاسل التوريد المحتملة، ويساعدها في ذلك جيش العمال الشباب الذي تمتلكه، وأجورهم التي تُمثّل جزءاً ضئيلاً من تلك الموجودة في القوى الصناعية الآسيوية الأخرى.
وحتى الآن، نجحت الهند في ترسيخ مكانتها كوجهة جاذبة للاستثمارات الأجنبية الجديدة، حيث يتدفق جزء كبير من هذه الاستثمارات نحو الولايات الجنوبية، الأكثر تقدماً من حيث البنية الصناعية والاقتصادية، وذلك بدعم من المسؤولين المحليين في هذه الولايات، الذين يعملون على تسريع وتيرة جذب الشركات العالمية، من خلال توفير حوافز ضريبية مغرية، وتسريع مشاريع البنية التحتية، وتبسيط الإجراءات الإدارية، مما قد يساعد الهند على التخلص من سمعتها كوجهة صعبة لممارسة الأعمال.
حلم أفلت لعقود
وبحسب تقرير أعدّته وكالة “بلومبرغ” واطّلع عليه موقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، فإن تطوير قطاع تصنيع قوي في الهند كان هدفاً طويل الأمد، لكنه أفلت مراراً من أيدي قادة البلاد، ففي السنوات الأولى التي أعقبت الاستقلال عن الحكم البريطاني، منح رئيس الوزراء جواهر لال نهرو الأولوية لبناء اقتصاد مكتفٍ ذاتياً يُنتج ما يستهلكه، غير أن النتيجة كانت اقتصاداً مغلقاً اشتهر بمنتجات ذات جودة متدنية.
لاحقاً، أدت إصلاحات التسعينيات إلى خفض الضرائب والتعريفات الجمركية، ما جذب الاستثمارات الأجنبية وساهم في تحفيز النمو، إلا أن الاقتصاد بقي مائلاً بشدة نحو قطاع الخدمات، ولاسيما تكنولوجيا المعلومات والخدمات المالية.
وفي عام 2014، أطلق رئيس الوزراء ناريندرا مودي حملة “صُنع في الهند”، التي تهدف لأن يُساهم قطاع التصنيع بنسبة 25% من الناتج المحلي الإجمالي، بحلول عام 2025. لكن في السنة المالية المنتهية في مارس/آذار 2024، ظلّت مساهمة التصنيع عند 17.3% فقط من الناتج، وهو مستوى لم يتغير فعلياً منذ عقد.
تاميل نادو الاستثناء
ورغم أن مساهمة قطاع التصنيع في الناتج المحلي الإجمالي للهند، لا تزال دون النسبة المستهدفة على المستوى الوطني، إلا أن عدداً قليلاً من الولايات في الجنوب، وفي مقدمتها ولاية تاميل نادو، باتت تقترب من تحقيق هدف رئيس الوزراء مودي المتمثل في أن يشكّل التصنيع 25 في المئة من الاقتصاد.
وتاميل نادو، التي لا تضم سوى 6 في المئة من سكان الهند، تحتضن اليوم أكبر عدد من المصانع مقارنة بأي ولاية أخرى، وذلك ثمرة عقود من السياسات التي انتهجتها السلطات المحلية، والتي ركزت على الاستثمار في التعليم، وتطوير البنية التحتية، وتبني بيئة حاضنة للأعمال.
وتُعدّ ولاية تاميل نادو ركيزة رئيسية للصادرات الصناعية، إذ تنتج أكثر من 40 في المئة من صادرات الهند من الإلكترونيات، وما يقرب من نصف صادرات البلاد من السيارات وقطع غيارها.
هوسور الصناعية
وفي قلب ولاية تاميل نادو، برزت مدينة هوسور كواحدة من أبرز المحركات الصناعية في جنوب الهند، بعدما تحوّلت خلال السنوات الأخيرة إلى موطن لمجموعة من أهم الشركات المصنّعة في البلاد، حيث تحتضن المدينة ما تصفه شركة “أولا إلكتريك موبيليتي” بأنه أكبر مصنع للدراجات الكهربائية في العالم، ما يضع هوسور في صدارة مشهد التحوّل إلى التنقل النظيف في الهند. كما أنه على الطرف الجنوبي الشرقي من المدينة، تبني شركة “تاتا إلكترونيكس” مجمعاً ضخماً لتجميع هواتف آيفون، في موقع كان في السابق ممراً معتاداً لقطعان الأفيال.
ولم تتوقف الاستثمارات في هوسور عند الصناعات الاستهلاكية، إذ اختارت شركة “إنترناشيونال إيروسبيس مانوفاكتشرنغ” – وهي مشروع مشترك بين “هندوستان أيرونوتيكس” و”رولز رويس” المدينة، لتشييد منشأة متطورة لإنتاج توربينات الطائرات النفاثة، وقطع الغيار المستخدمة في قطاعيْ الطيران المدني والعسكري.
وقد اكتمل المشروع في ديسمبر 2023، وبدأ الإنتاج في الشهر التالي، مع خطط لتوسيع هذا الاستثمار خلال السنوات المقبلة.
وأيضاً تحتضن مدينة هوسور، مصنع “تيتان” القديم للساعات، ومصنع شركة “تيتان للهندسة والأتمتة” (TEAL) الذي يُعد اليوم من الأعمدة الصاعدة في طفرة الصناعة الهندية، إذ تُنتج الشركة آلات متقدمة تُستخدم في تصنيع الإلكترونيات والمعدات الطبية والسيارات الكهربائية وحتى الهواتف الذكية، ما يجعلها بحق “مصنع المصانع” في الهند.
عيب رئيسي واحد
ورغم كل الخطوات التي قطعتها ولايات جنوب الهند، نحو التحوّل إلى مركز تصنيع عالمي، إلا أن التحديات لم تغب عن المشهد، فبحسب أصحاب المصانع هناك، يوجد عيب رئيسي واحد لا يمكن تجاهله، سببه أن المكونات الأساسية، مثل الرقائق الصغيرة المعروفة بالمتحكمات الدقيقة، أو المغناطيسات المستخدمة في بطاريات المركبات الكهربائية، لا تزال تُستورد من الصين، ما يضع الصناعة الهندية في موقع هشّ وسط التوترات الجيوسياسية المتزايدة، خصوصاً مع تحوّل هذه المواد إلى نقاط اشتعال في الحرب التجارية بين واشنطن وبكين، ولذلك فإنه يجب العمل بجد على تحسين هذا الواقع.
نسخة مختلفة عن الصين
ويقول المحلل الاقتصادي محمد سعد، في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن ما يحدث في جنوب الهند لا يمكن اختزاله في سباق مع الصين على لقب “مصنع العالم”، فبينما اعتمدت الصين على نموذج نموّ تصنيعي تقوده الدولة ويتّسم بتدخل حكومي مكثّف، مدفوعاً بصادرات ضخمة إلى الأسواق الغربية، تتبنى الهند وتحديداً الولايات الجنوبية منها، مساراً تنموياً مختلفاً يقوم على بناء بيئة أعمال أكثر مرونة وانفتاحاً، من خلال تعزيز شراكات استراتيجية طويلة الأمد ضمن سلاسل التوريد العالمية، وبخاصة في القطاعات التقنية والإلكترونية، وهذا التوجه يعكس وعياً متزايداً لدى صناع القرار الهنود بأن التنافس على مكانة صناعية عالمية لم يعد يرتكز فقط على القدرة الإنتاجية، بل أيضاً على الاندماج الذكي في الاقتصاد العالمي، واحتضان الاستثمارات الأجنبية التي تبحث عن استقرار طويل الأمد، وشراكات موثوقة خارج حدود الجغرافيا السياسية المتوترة.
وبحسب سعد فإن مدينة هوسور الهندية، هي مثال على الصعود الصناعي الذي تشهده الهند ولا يتبع نمطاً تقليدياً، حيث يمكن ملاحظة أن الشركات الكبرى التي اختارت المدينة مثل تاتا وإيروسبيس تعبّر عن تنوّع في قاعدة التصنيع، من الإلكترونيات إلى الدفاع والمركبات الكهربائية، لافتاً إلى أن هذا التنوّع يُظهر وعياً استراتيجياً في اختيار القطاعات الأكثر قابلية للنمو خلال العقد المقبل، وهو ما يُميز التجربة الهندية عن النموذج القائم على التصنيع منخفض التكلفة فقط.
التحدي الهيكلي الأكبر
ويعتقد سعد أن استمرار اعتماد الصناعات الهندية على المكونات الصينية، ليس مجرد عيب تقني بل هو إشكال هيكلي، فالهند حتى اللحظة لم تُطوّر صناعة محلية في المجالات الحرجة كأشباه الموصلات أو المغناطيسات النادرة، وبالتالي إذا أرادت نيودلهي فعلاً أن تكون جزءاً من سلاسل توريد أكثر استقلالية، فعليها الاستثمار في المواد الأولية وتقنيات التصنيع العميق، وهو ما يتطلب سنوات من التحفيز وتوجيه رأس المال.
ويشدد سعد على أن التصعيد الأميركي ضد الصين، هو أحد أهم العوامل التي دفعت المستثمرين إلى التفكير في بدائل آسيوية وتحديداً الهند، ولكن هذا العامل نفسه قد يتغير في حال تبدلت السياسة الأميركية بعد الانتخابات المقبلة، ولذلك فإن نجاح جنوب الهند على الصعيد الصناعي لا يجب أن يكون مرهوناً بالخصومة بين الآخرين، بل يجب أن يكون قائماً على تنافسية حقيقية وتوفير كل ما يلزم من تسهيلات وحوافز للمستثمرين الأجانب.
المصانع وحدها لا تكفي
من جهتها تقول الكاتبة والصحفية رلى راشد، في حديث لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، إن الشركات العالمية لا تبحث فقط عن تكاليف منخفضة، بل عن استقرار سياسي وكفاءة في البنية التحتية ومرونة في اللوائح، وهذه العوامل مجتمعة هي ما تقدمه جنوب الهند بشكل تدريجي، مؤكدة على الدور الحاسم الذي يجب أن تلعبه السلطات الهندية في توفير بيئة صديقة للاستثمار، حيث إن العنصر الذي سيحدد نجاح التجربة الهندية هو القدرة على بناء شبكة متكاملة من الموردين المحليين، وهذا الأمر أصعب بكثير من جذب مصنع أو اثنين من شركات كبرى، فلا يمكن لأي بلد أن يصبح مركزاً صناعياً وهو يعتمد على استيراد معظم المكونات الأساسية التي تدخل في عملية تصنيع المنتجات.
هل تخطف الهند عرش التصنيع الصيني؟
وترى راشد أن السؤال الحقيقي لا يكمن في ما إذا كانت الهند ستنجح في خطف عرش التصنيع من الصين، بل في كيفية توزيع الأدوار بين القوتين، فبدلاً من مقاربة تقوم على استبدال الصين بالهند، يُتوقّع أن يشهد العالم نموذجاً جديداً، يتمثّل في إنتاج الصين للمكونات المتقدمة والمعقّدة تقنياً بفضل بنيتها التحتية الضخمة وسلاسل التوريد الراسخة، بينما تتولى الهند أدواراً محورية في مراحل التجميع النهائي وخدمات ما بعد التصنيع مستفيدة من كلفة العمالة المنخفضة، مشيرة إلى أن هذا التعاون يخلق توازناً ديناميكياً يسمح للبلدين بالاستفادة من نقاط القوة المتباينة، ويعيد رسم خريطة التصنيع العالمية بطريقة أكثر تعددية من حيث الأقطاب.
خبير استراتيجي: الهند تساهم بـ15% من نمو اقتصاد العالم