بقلم: يورونيوز
نشرت في
اعلان
نشرت وكالة “أسوشيتد برس” تحقيقًا خاصًا يروي أحداث قصة مرعبة بدأت في سبعينيات القرن الماضي في قرية صغيرة في أيرلندا تُدعى “توام”، عندما عثر ولدان، في ظهيرة يوم عابر، وبمحض الصدفة أثناء هروبهما من صاحب بستان بعد سرقتهما تفاحة، على مقبرة جماعية للأطفال.
في لحظة خاطفة، تسلّق الصبيان جدارًا حجريًا يعود إلى دار “بون سيكور” الخيري المهجور منذ سنين، حيث كانت تُودع النساء الحوامل بأطفال غير شرعيين للرعاية في ظروف سرية، خوفًا من وصمة العار في المجتمع. وعندما قفزا إلى الأرض، سمعا صوتًا أجوف تحت أقدامهما: كانت هناك عظام.
كنز أم كابوس
بعد أكثر من أربعة عقود على الحادثة، تنقل الوكالة عن هوبكنز، أحد الصبيين اللذين اكتشفا المقبرة، قوله: “لم يكن هناك سوى كومة من العظام تحتنا. لم نكن نعرف إن كنا قد عثرنا على كنز أم على كابوس”.
في ذلك الوقت، كان يعتقد أن العظام التي داس عليها الصبيان تعود لضحايا المجاعة، لكن القضية أثارت اهتمام إحدى ربات المنازل في القرية، كاثرين كورليس، التي كانت شغوفة بالتاريخ، فبدأت بالبحث عن دار الرعاية المذكور، لتكتشف لاحقًا أن كان فيه ما يقرب من 800 رضيع وطفل صغير.
كورليس، التي نشأت في المدينة، شرعت في كتابة مقال عن الموقع للجمعية، لكنها سرعان ما وجدت نفسها محاطة برائحة الموت وبتفاصيل غير متوقعة. تقول: “ظننتُ أنني أكتب قصة جميلة عن الأيتام وما إلى ذلك، وكلما تعمّقت أكثر، ازداد الأمر سوءًا”.
دور الرعاية في أيرلندا
في عشرينيات القرن الماضي، افتُتحت دور الرعاية للنساء والأطفال بعد استقلال أيرلندا عن بريطانيا، وكانت تُدير معظمها راهبات كاثوليكيات.
أما في توام، فقد افتُتح دار رعاية الأم والطفل في أربعينيات القرن التاسع عشر للفقراء الأيرلنديين، حيث لقي العديد من ضحايا المجاعة حتفهم. وقد استولى عليه الجنود البريطانيون خلال الحرب الأهلية الأيرلندية بين عامي 1922 و1923.
بعد نهاية الحرب بسنتين، أُعيد افتتاح المبنى على أطراف المدينة كدار إيواء للأمهات الحوامل والشابات والأيتام. وكان يُدار في مقاطعة غالواي من قِبل راهبات “بون سيكور”، وهي رهبنة كاثوليكية.
كيف كانت ظروف العيش في الدار؟
يقول التحقيق إن المباني كانت بدائية وسيئة التدفئة، حيث لم يكن الماء الجاري متوفرًا إلا في المطبخ وجناح الولادة. وكانت المهاجع الكبيرة تؤوي ما يزيد على 200 طفل و100 أم في وقت واحد.
وخلال بحثها، لاقت ربة المنزل الفضولية صعوبة في جمع معلومات حول دار توام، لكن معلومة واحدة كانت كفيلة بأن ترعبها، وهي أن النساء اللواتي طردتهن عائلاتهن كن يُسجن هناك، ثم يُجبرن على العمل لمدة تصل إلى عام قبل طردهن مجددا، وقد فُصل معظمهن عن أطفالهن إلى الأبد.
حديقة سرية
في سجلات تعود إلى عام 1947، تبين أن اثني عشر رضيعًا من أصل 31 في إحدى دور الحضانة كانوا نحفاء. ووُصف أطفال آخرون بأنهم “هزيلون” أو “ذوو أطراف ذابلة”.
والمثير للاهتمام أن معدل الوفيات كان مرتفعًا للغاية في الدار، لكن التقارير الظاهرة عنه تفيد بأن الرضّع كانوا يتلقون رعاية جيدة، وأن نظامهم الغذائي كان ممتازًا.
في المجمع، كانت هناك حديقة جميلة، تضم أزهارًا وكهفًا وتمثالًا للسيدة العذراء مريم. كان قد أنشأها زوجان يعيشان في المنزل المجاور، لتخليد ذكرى المكان الذي عثر فيه هوبكنز على العظام، حيث ساد اعتقاد أن العظام التي عثر عليها الطفلان تعود إلى ضحايا المجاعة، لكن كورليس كشفت أن الحديقة “الخلابة” تقع فوق خزان الصرف الصحي تم تركيبه بعد المجاعة وليس قبلها.
وقد أثيرت حينها تساؤلات كثيرة عمّا إذا كانت الراهبات قد استخدمن الخزان كمكان دفن للأطفال بعد توقفه عن العمل عام 1937، لكونه مخفيًا خلف جدران الدار التي يبلغ ارتفاعها ثلاثة أمتار.
وعن ذلك تقول كورليس: “لقد وفّر عليهن ذلك الاعتراف بموت هذا العدد الهائل من الأطفال”، مضيفة: “لم يكن أحد يعلم ما الذي كنّ يفعلنه”.
عمليات التنقيب
في عام 2017، أكدت عملية تنقيب تجريبية شكوك كورليس، فقد وجدت هياكل عظمية لرضع وأطفال صغار في خزان الصرف الصحي القديم.
وقد أقر الراحل البابا فرنسيس بالحادثة خلال زيارته إلى أيرلندا عام 2018، عندما اعتذر عن “جرائم” الكنيسة التي شملت إساءة معاملة الأطفال، وإجبار الأمهات غير المتزوجات على التخلي عن أطفالهن.
وبعد خمس سنوات، حمّل تحقيق حكومي المسؤولية بشكل رئيسي لآباء الأطفال وعائلات النساء، كما ثبت أن الدولة والكنائس كانت مسؤولة عن المعاملة القاسية. ومع ذلك، يُحسب لتلك المؤسسات، رغم إخفاقاتها، أنها وفّرت مأوى عندما تخلّت العائلات عن نسائها.
اعتذار
في تعليقه على القضية، اعتذر رئيس الوزراء مايكل مارتن، قائلًا إن الأمهات والأطفال دفعوا ثمنًا باهظًا لـ”أخلاقيات دينية منحرفة” سادت البلاد. وأضاف: “لم يكن العار عليهم، بل علينا”.
كما قدّمت راهبات “بون سيكور” اعتذارًا عميقًا، وأقررن بدفن الأطفال بطريقة غير محترمة. وقالت الأخت إيلين أوكونور: “لقد فشلنا في احترام كرامة النساء والأطفال، وفشلنا في منحهم التعاطف الذي كانوا في أمسّ الحاجة إليه”.
قبل أسبوعين، بدأ فريق يضم خبراء في الطب الشرعي وعلماء آثار الحفر في الموقع، ومن المتوقع أن يستغرق جمع العظام المختلطة، وفرزها، واستخدام الحمض النووي لمحاولة التعرف على أصحابها أو أقاربهم وقتًا طويلًا.
ويقول مدير الحفريات، دانييل ماكسويني، الذي عمل سابقًا مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر لتحديد هوية المفقودين في مناطق نزاع مثل أفغانستان ولبنان، إن هذه المهمة صعبة للغاية.
ويضيف: “لا يمكننا التقليل من شأن تعقيد المهمة التي أمامنا، وطبيعة الموقع الصعبة كما سترون، وعمر الرفات، ومكان الدفن، وندرة المعلومات عن هؤلاء الأطفال وحياتهم”.