عشر سنوات مرت على ليلة 13 تشرين الثاني/نوفمبر 2015 الدامية، لكن الجراح ما زالت نازفة في ذاكرة الناجين وأقارب الضحايا الـ130 الذين سقطوا في سلسلة الهجمات الإرهابية التي هزت باريس. وبينما تحيي فرنسا ذكرى أشد هجماتها دموية منذ الحرب العالمية الثانية، تواجه الجالية المسلمة واقعاً يصفه البعض بـ”السيئ”، فهم من جهة “ضحايا للإرهاب لأن منهم من سقط قتيلا في تلك الاعتداءات، كما أنهم ضحايا سلوكات تحاصرهم بالشك والاتهام”.
ليلة حفرت جراحاً في الذاكرة الفرنسية
شهدت العاصمة الفرنسية باريس ذات مساء من خريف عام 2015، سلسلة هجمات إرهابية منسّقة، تضمنت إطلاق نار جماعي، وتفجيرات انتحارية، وعمليات احتجاز رهائن، استهدفت عدة مواقع في الدائرتين العاشرة والحادية عشرة.
وشملت أبرز مواقع الهجمات الإرهابية في باريس مسرح باتاكلان، حيث اقتحم مسلحون المكان وأطلقوا النار بشكل عشوائي على الحضور واحتجزوا بعضهم كرهائن. وقد انتهت المواجهة بـأن أقدم عدد من المهاجمين على تفجيرأنفسهم ما أسفر عن مقتل 89 شخصًا، وهي أكبر حصيلة للضحايا في سلسلة الهجمات تلك. كما شهد محيط ملعب فرنسا في ضاحية سان دوني تفجيرات انتحارية استهدفت المتفرجين قبل مباراة كرة القدم، ووقعت هجمات بالأسلحة النارية في بعض شوارع باريس أبرزها شارع بيشا وشارع أليبار وشارع دي شارون.
وأسفرت الاعتداءات عن مقتل 130 شخصًا وإصابة أكثر من 360 آخرين، بينما قضى سبعة من المهاجمين خلال العملية. وفي اليوم التالي، أعلن تنظيم داعش مسؤوليته عن الهجمات، ووصف الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند ما حدث بأنه “إعلان حرب”، خطط له التنظيم في سوريا ونُفّذ بتواطؤ مع المسلّحين على الأراضي الفرنسية.
وكان رد باريس كان سريعًا ، إذ أُعلنت حالة الطوارئ، وتم فرض قيود مؤقتة على الحدود، كما تم قتل المشتبه به البلجيكي عبد الحميد أبا عود في 18 نوفمبر 2015 خلال مداهمات أمنية.
” ضحايا يتعرضون للاتهام”
يشير الصحفي المغربي والمختص في علم الاجتماع المقيم في فرنسا، مهدي الزايداوي، إلى أن الجالية المسلمة تواجه مفارقة صعبة في هذا البلد، فهي من جهة ضحايا للإرهاب بما أن منهم من لقي حتفه في هجمات إرهابية، ومن جهة أخرى ضحايا لسلوكيات حوّلتهم أحيانا إلى مشتبه بهم دائمين.
ويعترف الزايداوي في حديثه لـ”يورونيوز” أن هجمات 2015 كانت من أعنف الهجمات التي شهدتها فرنسا وأوروبا، وأبرز الضربات التي نفذتها داعش في قلب القارة العجوز. ورغم إدانة مسلمي فرنسا لنهج التنظيم الإجرامي وتبرّؤهم منه، عاشوا بعد الهجمات أحداثًا وصفها المتحدث بـ”المؤلمة”، جعلتهم يشعرون بأنهم “أصبحوا المستهدفين الرئيسيين”، ما زاد من “التضييق والضغط عليهم وجعل الحياة تبدو أكثر صعوبة بالنسبة إليهم” وفق رأيه.
ويعتقد الزايداوي أن الهجمات أعطت الشرعية لسلسلة من السياسات والإجراءات التي تبنتها الحكومات الفرنسية المتعاقبة، من أبرزها قانون مكافحة الانعزالية الإسلامية المثير للجدل الذي أقرّه الرئيس إيمانويل ماكرون وتمت المصادقة عليه نهائيا في تموز 2021.
ويقول الخبير إنه سبقت هذا القانون، تشريعات أخرى وإجراءات رأى فيها البعض “تضييقا على الجالية المسلمة”. فهو يذكر على سبيل المثال، قانونَ 2004 الذي حظر ارتداء الرموز الدينية في المدارس، وهناك أيضا إجراء النساء المحجبات من المشاركة في الأنشطة المدرسية أو دخول المؤسسات العامة وهي الخطوة التي لم توضح السلطات الفرنسية أسبابها.
كما صدرت تصريحات مثيرة للجدل، مثل ذلك الذي أدلى به وزير الداخلية السابق كريستوف كاستانير الذي قال يوما إن بعض الممارسات، مثل الامتناع عن تقبيل النساء أو الإكثار من الصلاة في رمضان، تُعتبر “علامات تطرف” وهو ما يدل، وفق المتحدث، على “منظور أيديولوجي أكثر منها أمنيًا.”
ويخلص الزيداوي إلى أن الهجمات الإرهابية منحت الشرعية للتيار اليميني المتطرف، لكنها “لم تكن السبب الأصلي للتضييق على المسلمين، بل جاءت لتعزيز سياسات قائمة مسبقًا”.
كيف يغذي الخطاب السياسي العداء ضد المسلمين؟
يبرز اليمين المتطرف في البلاد وأوروبا كأحد المحركات الرئيسية لتصاعد العداء ضد الجالية المسلمة. إذ يستغل هذا التيار الحوادث الإرهابية أو القضايا الاجتماعية والاقتصادية لربط المسلمين بالإرهاب أو اتهامهم بعدم الاندماج، ويعتمد في ذلك على خطاب إعلامي يركز على ما يسميه “الخطر الثقافي والديني” الذي يهدّد الهوية الوطنية، مستفيدًا من “المخاوف الأمنية ونبرة الشعبوية”.
وتتجلى مظاهر “الإسلاموفوبيا في فرنسا” في أشكال متعددة، تتراوح بين التصريحات السياسية المثيرة للجدل والممارسات اليومية التي يواجهها بعض المسلمين في حياتهم العامة. فإلى جانب الحملات الإعلامية التي تلقي باللوم على المسلمين في الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، يشهد الواقع أيضًا حوادث تستهدف هذه الجالية.
على سبيل المثال، حمّلت مسؤولة فرنسية، خلال ظهورها على قناة BFM TV في شهر رمضان، المسلمين مسؤولية تفاقم أزمة نقص البيض في البلاد، معتبرة أن استهلاكهم خلال الشهر هو السبب وراء الأزمة. وقد أثارت هذه المزاعم استغرابًا واسعًا بين المسلمين وغير المسلمين، رغم أن الأرقام تشير إلى أن أزمة البيض لا علاقة لها بالعادات الغذائية للمسلمين، فبحسب دراسة للجنة الوطنية للترويج للبيض، بلغ متوسط استهلاك الفرد الفرنسي عام 2023 حوالي 224 بيضة سنويًا، بزيادة قدرها 10 بيضات مقارنة بعقد مضى، ويُعزى هذا الارتفاع إلى تراجع استهلاك اللحوم، مما جعل البيض بديلاً رخيصًا ومتاحًا كمصدر للبروتين الحيواني.
ولا تقتصر تداعيات الإسلاموفوبيا على التصريحات فقط، إذ شهدت فرنسا جرائم عنف بحق بعض المسلمين.
ففي جنوب البلاد، قُتل شاب مسلم من مالي بوحشية داخل مسجد، بعد أن تعرّض لأكثر من 50 طعنة أثناء الصلاة، وصوّر الجاني جريمته موجهًا شتائم للإسلام والمسلمين. وبعد أيام، أقدم رجل على خلع حجاب امرأة في الشارع.
أثناء إعداد هذا التقرير، لاحظنا تحفظ الكثير من المسلمين عن الإدلاء بأي آراء حول هذه المسألة. لكن يورونيوز عربي نجحت في االحصول على بعض الشهادات.
يقول محمد نذير سالم، وهو تونسي يعيش في فرنسا منذ سبع سنوات: “ألاحظ أحيانا سلوكيات تنمّ عن عداء تجاه المسلمين، وهوشعور يغذيه اليمين المتطرف الذي يصوّر المنتمي للديانة الإسلامية كمصدر للتهديد والخطر، وتتحول المرأة المحجبة إلى الهدف الأبرز لهذا الاستهداف.. بل إن الأمر يمتد أحياناً إلى تفاصيل صغيرة، مثل كتابة عبارة “حلال” بحجم صغير على أغلفة المنتجات لتجنب نفور الزبائن غير المسلمين.. وقد ازداد الوضع تعقيدًا بعد حرب غزة 2023، حيث شهدنا تضييقات على الصلاة والممارسات الدينية.” وفق رأيه.
شهادة أخرى لافتة حصلت عليها يورونيوز من شاب فرنسي مسلم تحدث إلينا شريطة عدم الكشف عن اسمه. سألناه عن رأيه في المسألة فكان له الجواب التالي:
قال: “قبل سنة تقريبا قررت مغادرة باريس باتجاه أرخبيل بولينيزيا الفرنسية لمتابعة تكويني كطبيب تحت التدريب. أردت الرحيل عن باريس بصخبها وضجيجها إلى مكان أكثر هدوءا”.
ويتابع المتحدث بالقول: “أكثر ما دفعني لهذه الخطوة هو أنني أردت الابتعاد عن حالة الاستقطاب السياسي والإعلامي، وعن برامج التوك شو التي تغص بها بعض القنوات المحسوبة على أقصى اليمين والتي لا حديث لها سوى ما يفعله بعض العرب والمسلمين وتحاسب عليه جالية بأكملها.”
ويضيف هذا الشاب: “كان علي أن أرحل. فقد مللت من نظرات الشك وبعض السلوكيات تجاهي في معاملاتي اليومية. فمنذ هجمات باريس التي ارتُكبت باسم الإسلام والتعاطي الإعلامي الذي رافقها، لاحظت ظهور شرخ في حالة التوازن الهش في مجتمعنا. أصبحنا مضطرين لتبرير سلوكياتنا، وإثبات براءتنا، وحاولت أنا شخصيا أن أبذل ضعف ما يقوم به غيري من جهود، بل وحتى التجاوز عن تصريح أو سلوك مسيء من هنا أو هناك”.
في تاهيتي إذا كان المقام، يقول المتحدث. “هناك ذقت طعم الهدوء والسكينة وأصبح قرار الرحيل شبكة خلاص لي بدل أن يكون سببا للحزن ولابتعادي عن أهلي وأصدقائي.”
ويمضي الشاب في شهادته قائلا: “في بولينيزيا الفرنسية، الإسلام غائبٌ تمامًا، بل يكاد يكون معدومًا. فباستثناء بعض السائحات المحجبات، اللواتي نادرًا ما يظهرن في شوارع بابيتي، فإن هجرة المسلمين أو المنحدرين من شمال أفريقيا غير موجودة إطلاقا. وإذا ما حدث ووقعت أعمال إجرامية، فهي في أغلبيتها الساحقة من فعل سكان محليين. لذلك فيستحيل أن نجد من يستغل تلك الحوادث لوسم أفراد مختلفين عرقيًا وثقافيًا.”
“مع ذلك، سأروي لكم حادثة عشتها” يقول الشاب. “لقد كنت في رحلة بإحدى الجزر النائية في هذا الأرخبيل الفرنسي يقطنها بالكاد خمسون شخصا ولا يربطها بالعالم الخارجي سوى فندقان صغيران وباخرة تأتي كل شهر لتزويد الجزيرة بما تحتاجه من مواد أساسية أخرى.”
ويتابع المتحدث قائلا: ” في رحلتنا تلك، كان المرشد السياحي من السكان الأصليين. كان اسمه جاك. كنا في ساعات الصباح الأولى. بعد ساعة من المشي على طول سفوح مناجم الفوسفات الشاسعة المهجورة في الجزيرة، حيث استعادت الطبيعة أراضيها، استدار جاك وهو يخطو نحوي برشاقة. اقترب مني وصرخ في وجهي**: “مهلاً، إنهم أناس مثلك، أنت من يذبح ويقتل، أليس كذلك؟ أنت تمامًا مثل بن لادن، أليس كذلك؟”**
ويمضي الشاب في شهادته: “قلت لجاك: هذا غير صحيح، من قال لك ذلك؟ فردّ المرشد: أجل، أجل، شاهدته على التلفزيون (..)”
ويردف قائلا: العبرة من الحادثة هي أن ماقاله جاك بعفوية ما هو إلا نتاج خطاب إعلامي متشنّج وصل صداه إلى أقاصي الأرض وينال من قيم التسامح والاحترام لبعضنا البعض، ودون بذل أي جهد في التمييز بين أفعال قلّة منبوذة وأكثرية لا تريد إلا العيش بسلام رغم اختلاف الثقافة والدين.” ختم الشاب شهادته.
الإسلاموفوبيا في الأرقام
في شهر سبتمبر/أيلول الماضي، أعدّ مسجد باريس الكبير (Grande Mosquée de Paris) بالتعاون مع معهد Ifop تقريرا مستندا إلى مسح وطني شمل ألف مسلم، باستخدام منهجية تجمع بين المقابلات الهاتفية والاستبيانات الذاتية، بهدف قياس التعرض للتمييز والعنف بشكل أكثر شمولًا من مجرد الشكاوى الفردية.
وأظهرت النتائج أن 66% من المسلمين تعرّضوا لسلوك عنصري خلال السنوات الخمس الماضية، أي أكثر من ثلاثة أضعاف نسبة السكان الفرنسيين عمومًا، بينما يرى نصفهم تقريبًا أن ديانتهم هي بشكل أساسي السبب في هذه التصرفات. ويزداد التمييز ضد المسلمين الذين لهم لكنة قوية أو أصول إفريقية جنوب الصحراء، ليصل إلى أكثر من 80%، ويطالهم بشكل واسع في مختلف مجالات الحياة اليومية، بما في ذلك الخدمات العامة مثل التوظيف، حيث يتعرض 50% منهم للتمييز بسبب الدين و53% بسبب الأصل، والسكن بنسبة 46%، والمراقبة الأمنية بنسبة 51%.
وبحسب الاستطلاع، يشعر نصف المسلمين الباحثين عن عمل أو سكن بأنهم يعاملون بشكل أسوأ، فيما يعيش 82% منهم حالة قلق جماعي نتيجة انتشار الكراهية، ويعتبر 81% أن هذه الظاهرة قد تصاعدت خلال العقد الماضي.
ومع ذلك.. باريس ليست أحادية اللون
رغم هذه الإحصاءات والتقارير التي تكشف تصاعد الإسلاموفوبيا، برزت تجارب إيجابية تؤكد أن الواقع ليس أحادي الأبعاد.
يقول سفيان شعيبي، تونسي يقيم في باريس منذ عام 2013 ليورونيوز: “لم أشعر أبدًا بتمييز مباشر، فزملائي في العمل يعاملونني باحترام، ويسألونني أحيانا عن رمضان وعيد الأضحى.. صحيح أنني ألاحظ التعليقات المسيئة على وسائل التواصل الاجتماعي، لكن على أرض الواقع، الفرنسيون ودودون جدًا معي”.

